بداية أقدم في هذا المقال مفهوم مصطلح سيتكرر معنا، وهو “التاريخ المُقَنّع”:
ما هو التاريخ المُقَنّع؟
هو مصطلح جديد يستعمل لأول مرة، وقدمته كعنوان لكتابي الجديد “التاريخ المُقَنّع: هل التاريخ حدث أم فكرة؟، نقد أطروحات التوراتين العرب”، الذي صدر مؤخرًا عن دار زهراء الشرق بالقاهرة.
ووضعت له تعريفًا وشرحًا: فهو “عملٌ انطباعيٌ يعتمدُ على نقلِ الجغرافيا من بلدٍ إلى آخر بعد تحريفِ وتجريفِ ومسخِ أسماءَ المواقع الجغرافية في البلد الأصل، والبلد المقترح على السواء، ثم تلفيقها بشكل تعسفي إلى الجغرافيا الجديدة. كما أنه لا يقوم على منهج علمي متكامل، ولا على بحث رصين، فهو يعتمد منهجًا أُحاديًا أساسه المقابلة بين الأسماء والألفاظ لإثبات الفكرة، في حين يتجاهلُ النصوصَ التاريخيةَ في حضارات الشرق القديم والجزيرة العربية، ونتائجَ التنقيباتِ عن الآثار بالمطلق، ويؤمن فقط بصحة النص التوراتي، وخطأ الجغرافية التوراتية. وغايته أن يُقدِم تأريخًا متخيلًا، من خلال نقل الوقائع التاريخية الحقيقية ثم إسقاطها على خارطة الخيال الجغرافي المنفلت، ليعيد رسم المشهد التاريخي المتخيل بأساليب الاجتزاء والانتقاء، وادعاء وقائعَ غير صادقة، ودمج العصور والمراحل التاريخية، بصرف النظر عن الأقدم والأحدث، وبطريقة تدل على عدم فهم التاريخ، بل تَعْمَدُ إلى تشويهه بتزوير قراءة النصوص وإعادة تركيبها على النحو الذي يتفق مع الادعاء المتخيل، ثم إعادة تقديمه وكأنه حقيقة. وهو ما أطلقنا عليه “التاريخ المُقَنّع” كمصطلح يعبر عن أطروحات التوراتيين العرب بشكل لافت ودقيق، وكل ما يُماثِلها من أفكار، ومناهج، وأساليب.
ولذلك فهو كل شيء ينطوي على أمر مُضْمَرٍ، يُخالف في حقيقته ما هو مُعلن. كما أنه يختلف عن التأريخ المزور، الذي يضع معلومة خاطئة مكان معلومة صحيحة. ويختلف كذلك عن التأريخ المحرف، الذي يُعطي دورًا ما.. في حدث ما.. لغير صاحبه. فمصطلح “التاريخ المُقَنّع” يجمع ذلك كله، ويزيد عليه بوضع قناعٍ متخيل”.
وبالعودة إلى موضوعنا الذي تطرقت له في كتابي “التاريخ المُقَنّع”، فقد زَحَفَتْ كُتب التاريخ المُقَنع نحو المُقَدّس بطريقة تدرجت حتى بلغت أعلى درجات الجرأة في كتاب (الطبيب!) محمد منصور “التوراة الحجازية” الذي صدر سنة (2020م)، الذي جعل أم القرى هي جغرافية بني إسرائيل، ومن ثم تكون “مكة المكرمة” هي “أورشليم”، وبيت الله الحرام هو هيكل سليمان، والكعبة المشرفة هي قُدس الأقداس، أو المحراب في ذلك الهيكل، في واقعة لم يسبقه إليها أحد.
يقول محمد منصور في نهاية خاتمة كتابه: ” قد يرى أحدهم في فتح هذا الموضوع تسليط أعين اليهود على أقدس بقاع المسلمين لا سيما بعد ما نُشر Dennis Lipkin (كتاب العودة إلى مكة Return to Mecca)، لكنه في الحقيقة دعوة للرجوع إلى قبلة إبراهيم الحقيقية التي توحد ولا تفرق، القبلة التي تنبأ يسوع للسامرية بإعادة الكشف عنها، والتي هي بيت الله الحرام بمكة؛ لا القدس ولا نابلس”.
وهذا أهم تصريح يوضح الهدف والغاية من كتابه، بل هو في تقديري غاية جماعة التاريخ المُقَنّع جميعهم. وفي السياق نفسه عد زيارة “ملكة سبأ” لنبي الله سليمان عليه السلام، “أشبه برحلة حج أو عمرة لبيت الله الحرام بمكة” مستدلًا ببعد المسافة بين أرض سبأ باليمن وفلسطين. فالرجل أخذ الأمر بظاهره لا بوقائع التاريخ؛ لأنه لا يعرف أن القوافل التجارية في الألف الأول ق.م وربما قبل ذلك اعتادت على السفر مسافات بعيدة من بلاد اليمن حتى “غزة” بفلسطين، وأن الناس قد خَبِروا ذلك تمامًا وأَلِفُوه، وهو ما نعرفه من تاريخ التجارة الدولية في العصور القديمة. كما أنه لا يُدرك أن الملوك القدماء في كل الحضارات قد اعتادوا على قطع مسافات بعيدة للحروب والزيارات، وانهم دونوا في نصوصهم الكثير من أخبار غزواتهم الحربية القريبة والبعيدة، وسفاراتم، وغير ذلك. فنحن لا ينبغي أن نقرأ تاريخ الأمس بمنظور اليوم، فتلك عاداتهم، وهي حياتهم التي عرفوها وَوَطّنُوا أنفسهم عليها، فالتاريخ يُقرأُ بزمانه وليس بزماننا نحن. فلو كانت بلاد النبي سليمان قريبة من بلاد ملكة سبأ، لكان عَلِم عنها عليه وعلى نبينا الصلاة واسلام، ولكنه لم يعرف بها إلا من الهُدهُد الذي كان أحد جنوده الذي حقق الله به دعوته كما جاء في سورة (ص): ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ (36) وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ (37) وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ (38) هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ (39)﴾.
ولكي يقرب فكرته قرر أن “صور” اللبنانية التي من ملوكها “أحيرام” الذي ربطته علاقات مع النبي سليمان وزوده بأخشاب الأرز، لم يكن سوى ملك في “صور” عُمان وسمّاه “خيران” وفي مكان آخر (حَرَم) لكي يُقربه من الحرم على ما يبدو، وأن ملك مكة (سليمان) كافأه بمنحه وادي جلال بحرة رهاط! ولم يسأل منصور نفسه: من أين سيأتي بأخشاب الأرز اللبنانية إلى صور العُمانية؟!، وأيهما أقرب “صور” اللبنانية إلى “القدس” (حوالي 484 كم)، أم “صور” العُمانية إلى الموقع البديل الذي افترضه لسليمان عليه السلام وهو مكة؟! (أكثر من 2000 كم).
وفي حين استغرب منصور أنه لا يوجد في فلسطين أثر للسور الذي ذكرت التوراة أنه أحاط بأورشليم والهيكل، فإنه لم يستغرب كذلك أنه لا يوجد سور بأورشليم مكة! التي زرعها في جبل أبي قبيس، وقرينته في ذلك “أن التمائم التي يلبسها اليهود في معابدهم وصلاتهم تشبه إلى حد بعيد الكعبة المشرفة (مرجعه كتاب Return to Mecca. Lipein, XXI) ويضعون في داخلها أربع كتابات: اثنان من سفر الخروج، واثنان من سفر التثنية، فيلبسونها كعصائب على جباههم، ويلفون أخرى على سواعدهم لِتُذَكّرُهم بالله. وقد جاءت التوصية بها وهم في تيه سيناء (سفر الخروج 13: 9، سفر التثنية 6: 8، سفر التثنية 11: 18)، وهذا يدل على أنهم كانوا يعلمون بوجود بيت الله الحرام بمكة والذي كان موجودًا من أيام إبراهيم عليه السلام”. بل يؤكد أن مبدأ القبلة لمكة كان معلومًا حتى قبل إخراج موسى لبني إسرائيل من مصر: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). (يونس: 87). ممكن فهمها على أن يكون البيتين الجديدين-بين مساكن المؤمنين ومكة، بحيث تكون صلاة المؤمنين باتجاه البيت الحرام.
والملاحظ هنا أن منصور استخدم أمرين: الأول، مقارنة ما يستخدمه اليهود اليوم، بشكل الكعبة، لأن ذلك يخدم وجهة نظره، والثاني، أنه لجأ إلى الشاهد القُرآني طالما وجد فيه كلمة “قبلة” التي تخدم قناعته. ولكن، وما المشكلة في أنهم كانوا يعلمون بوجود البيت الحرام الذي كان أول بيت وضع للناس بعد هبوط آدم؟!، وأنه أعيد بنائه في عهد إبراهيم عليهما السلام؟
جاء في تفسير الطبري: القول في تأويل قوله تعالى في سورة يونس: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (87)
قال أبو جعفر: معنى ذلك، وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا. يقال منه: “تبوَّأ فلان لنفسه بيتًا”، إذا اتخذه. وكذلك “تبوَّأ مصْحفًا”، إذا اتخذه، “وبوأته أنا بيتًا”، إذا اتخذته له، أما قوله ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾، أي: واجعلوا بيوتكم مساجدَ تُصلُّون فيها، وما نفهمه من ذلك أن المقصود بالقبلة ليس الوجهة، بل مكان العبادة. بمعنى يلزمون بيوتهم ولا يخرجون منها، ويُصَلّون فيها، كي لا يتعرضون لسوء، ومن ثم يستعدون للخروج. وبالتالي تكون قرينة الاستدلال التي اعتمدها محمد منصور ضعيفة وباطلة، ولا يمكن أن تشكل منطلقًا لبناء فكرة جديدة، ونقل الجغرافيا من بلد إلى بلد آخر.
ولكي يخرج من ورطة البعد والتزامن، قرر “أن المرحلة الأولى لبني إسرائيل كانت في جزيرة العرب، وتبدأ بالهيكل الأول الذي بناه النبي سليمان عليه السلام بمكة المكرمة. أما المرحلة الثانية فمسرحها فلسطين وتمثل زمن الهيكل الثاني، وهو بيت المقدس بالتعبير اليهودي، والمسجد الأقصى بالتعبير القرآني، والذي بناه الهاشميون المكيون (لا الحشمونيين المكابيين)! وهنا يبدأ التاريخ اليهودي”، على حد وصفه.
إن خطورة هذا القرار (لا أسميه استنتاج) هو أنه جعل بيت الله الحرام بمكة المكرمة، والمسجد الأقصى، هما هيكلي سليمان الأول والثاني.
كل هذا ويدعي جماعة التاريخ المُقَنّع أنهم يدافعون عن فلسطين الذي أسكتوا تاريخها وأبرزوا تاريخ الآخر وحسب، وهو ما تناولته تفصيلًا في كتابي الثاني الذي سيصدر خلال شهر ديسمبر 2025م إن شاء الله بعنوان: “فوضى السرد في كتب التاريخ المُقَنّع: من هوية اليمن وعروبة أهلها إلى إسكات التاريخ الفلسطيني وإبراز الآخر”.
وخلاصة القول أن الإصرار على نقل جغرافية التوراة إلى جزيرة العرب، ليس أمرًا هينًا، بل هو ستراتيجية ترُسم لغايات وأهداف لا تغيب عن الذهن الحصيف، وهو تحذير أطلقه بكل قوة، وبخاصة أن الأجيال الجديدة التي تتلقى من وسائل التواصل الاجتماعي ولا تقرأ التاريخ بدأت تتأثر وتروج لهذه الأطروحات، بل وتدافع عنها. وهنا أدعو حكومتي المملكة العربية السعودية واليمن على وجه الخصوص لإصدار قانون يسمى “قانون معاداة الوطن والهوية” يماثل ما يُعرف في الغرب “بقانون معادة السامية”، وذلك لصون الجيل الجديد العاشق لنشر المقاطع المثيرة بدون خوف ولا فهم لتبعاتها من ناحية، ولتحصين والأرض بكل معانيها من ناحية أخرى، ولإجبار الآخر على التعامل مع تاريخنا باحترام علمي منهجي…
0