يهلّ هلال شوال، فتشتعل الأرواح فرحًا، وترتفع تكبيرات المساجد تملأ فضاء الحي بالنور والسكينة. يتجه الناس قبل الفجر إلى مصلى “المشهد”، يسيرون بثيابهم البيضاء فوق أرصفة بلّلها ندى التهجد، ويمضون بخطى الطمأنينة نحو صلاة العيد، حيث تلتقي الأيدي وتتصافح الأرواح قبل الأجساد، وكأنهم يقدّمون للمكان شهادة حبّ لا تزول.
تبدأ البيوت تتهيأ للعيد من أيامٍ سبقت: تُخرج الزوالي، تُنظّف المجالس، تُعيد طلاء الجدران، وتُرش الشوارع بالماء البارد. تُشتري الحلوى الملوّنة لأطفال الحي: حلقوم، شريك محلى، غريبة، معمول، مصّاص، والحلوى البيضاء… فتتلألأ الصحون كأنها أطباق نور وبهجة. وتبدو الأمهات وكأنهن يوزّعن البركة بأصابع من محبة.
يفتح الناس الأبواب مع شروق الشمس، ويشرعون في طقس المعايدة كما يشرعون في الصلاة. يدخل الجيران على بعضهم بلا موعد، يحملون صواني القهوة والتمر، وتتبادل الأيادي العيديات، وتغمر القلوب طمأنينة تشبه الرضا. كل بيت يصير بيتًا للجميع، وكل طفل يغدو حفيدًا لكل حي.
يتوافد الأطفال بعد الظهر إلى “برحة القزّاز”، حيث تنتظرهم الدبابات الصغيرة والدراجات، تُستأجر الخيول، وتُنصب المراجيح، وتبدأ الألعاب. تصرخ الحياة في وجه الوقت: المفرقعات تتطاير، الضحكات تتناثر، والزمن يُغفر له جريانه.
تُقام في المساء حفلات العرضة والمزمار. يهتزّ وادي وجّ تحت خطى الفرح، وتُرفع رايات الفلكلور، وتهدر الطبول كأنها تُنادي على الذاكرة. ينصب الناس صيوانًا في العباس، فيغني عبدالله محمد والتوعري وعزوز الأعرج… فيخرج الصوت من الحنجرة ليقيم في الصدر. يغني الناس مع المطربين، لا لأنهم يحفظون الكلمات، بل لأنهم يحفظون العيد.
يتجمّع الشباب في شارع السينما بالبخارية، يتوزّعون على مقاعد سينمات “عواضة بالروس”، “بن حمدي”، “الششة”، “الشهري”، و”وج”. تُعرض الأفلام، فيضحكون، يصرخون، يصفقون، وكأنهم يحيون الحياة من جديد. الحيّ نفسه يبدو كما لو أنه دخل في مشهد سينمائي لا ينتهي.
يجلس عيال الحارة على أرصفة شارع عكاظ، يشربون الشاي من “براد أبو أربعة” و”أبو عشرة”، يلتهمون الكبدة من البوفيهات الشعبية، ويتبادلون الحكايات كما يتبادلون الحلوى. أكياس السكاكر تتراقص على الأرصفة، والهواء مشبعٌ بروائح الطفولة والسكّر والمحبّة.
يسدل الليل ستاره بهدوء، فتتلألأ النجوم كأنها نظرات الأمهات من خلف الستائر. تنام البيوت على همسات، وتغفو الأرصفة على بقايا ضحكات، ويكتمل العيد لا كهديّة، بل كتجلٍّ صوفيّ للمحبة والانتماء.
لم تحتفل الشرقيّة بالعيد يومًا… بل كانت تصنعه من نبض ناسها، وصفاء جيرانها، وألفةٍ لا تُعلّم… بل تُعاش.
وكان العيد فيها، صلاةً أخرى… بلا سجّاد.






