رحل عن دنيانا الأسبوع الماضي معالي الأستاذ الدكتور محمد بن علي العقلا، أحد أبرز القامات الأكاديمية و الإدارية في التعليم العالي في المملكة.
ولم يكن رحيله بالنسبة لي مجرد خبر عابر في صفحة الأسبوع، بل كان سقوط عمود من أعمدة حياتي المهنية والإنسانية.
فقدتُ رجلًا لم يكن أستاذًا فحسب، ولا إداريًا محنّكًا، ولا رائدًا من رواد الادارة الجامعية ؛ لا أبالغ حين أقول إن الدكتور العقلا لم يكن بالنسبة لي مجرد أستاذ ولا رئيس في فترات عملي معه؛ بل كان في كل المواقف سندًا إنسانيًا ومعلمًا روحيًا.
كنت ألجأ إليه في أزماتي المهنية والشخصية، فيسمع كما يسمع الأب، ويوجّه كما يوجّه رجلٌ يرى في نجاح الآخرين امتدادًا لرسالته. وفي كل مرة ومنذ عرفته قبل ٢٩ عاماً كان يقول اطمئن :(ما يصح إلا الصحيح).
كان – رحمه الله – مدرسة قائمة بذاتها. مدرسةٌ تؤمن أن الإدارة ليست لوائح ولا مقاعد ولا صلاحيات، بل قلبٌ يتسع،وبصيرةٌ ترى الإنسان قبل المهمة، والروح قبل الإنجاز.
لكن رحيله – على وقعه الأليم – لم يكن غيابًا بمعناه الكامل؛ فهناك من الرجال من تبقى آثارهم حاضرة حتى وإن غاب الجسد، لأنهم عاشوا حياتهم قيمةً مضافة في حياة الآخرين، وكانوا مدرسة في القيادة قبل أن يكونوا أصحاب مناصب.
كان ابا طارق على حد علمي قائد مدرسةٍ عنوانها: “الإنسان أولاً”، فقد تميّز الدكتور العقلا – رحمه الله – بأسلوب إداري فريد، جعل منه نموذجًا نادرًا في بيئة العمل الجامعي.
لم يكن يعتمد على السلطة الرسمية، ولا على الظهور، ولا على لغة الأوامر؛ بل مارس الإدارة بإنسانيته قبل أدواته، وبَسْمَتِه الهادئة قبل خططه، وبقلبه الرحب قبل مكتبه الواسع.
كان يرى في كل استاذ او طالب أو موظف “إنسانًا” قبل أن يراه “رقمًا وظيفيًا”، فيستمع لحاجاتهم ويحتوي ظروفهم،، ويفتح لهم أبواب الأمل حين تضيق بهم الحياة.
ولذلك أحبه الناس، والتفّ حوله من عمل معه لا طمعًا ولا رهبة، بل إعجابًا واحترامًا وإجلالاً ، لأنه كان يمارس أعمق صور القيادة: قيادة القلوب.
فقد كانت قراراته بكل مكوناتها ومستويات صدورها ضميرٌ يؤسس للتطوير ويضبط الأداء قبل أن تكون أوامر أو قوانين تصدر لمن معه.
أكثر ما كان يميّز معاليه أنه صاحب قرار متزن، يوازن بين المصلحة والنزاهة، وبين الحق والرحمة.
لم يكن ينحاز إلا لما يمليه عليه ضميره المهني ومعايير العدل التي تربى عليها.
وكان يقول لي دوماً دائمًا:
“لا قيمة للإدارة إن لم تحترم الإنسان الذي تخدمه”.
ولم يكن ذلك شعارًا؛ بل ممارسة يومية لمسها كل من تعامل معه: هدوؤه، حكمته، وطريقته البسيطة في حل أعقد المشكلات بأقل قدر من التوتر وأكثر قدر من الاحترام للطرف الآخر.
عمل معاليه بصمت… وترك بصمة لا تُمحى؛ فلم يكن رحمه الله محبًا للأضواء، ولا باحثًا عن حضور إعلامي.
كان يفضّل أن يتقدّم العمل… ويظل هو في مؤخرة المشهد.
تلك البساطة كانت سر عمقه، وتلك العفوية كانت سر أثره، وتلك الأخلاق كانت سبب محبّة الناس له.
ولي من المواقف في العمل الإداري ما يضيق المساحة عن ذكره ولكني لا أنسى تواجده معنا بل قبلنا في مكاتب استقبال ضيوف الجامعة في كل مؤتمر يستقبلهم ويرحب بهم ويطمئن على إقامتهم؛ حرصاً منه على رسم الصورة الحقيقية عن جامعة ام القرى في هذا البلد الحرام.
وداعًا لواحدٍ من رموز القيادة الرحيمة
برحيل الدكتور العقلا فقدنا نموذجاً قيمياً حيّاً، وفقدت أنا شخصيًا، نموذجًا أخلاقيًا رفيعًا في العمل العام.
نماذج قليلة يجتمع فيها العلم، والإدارة، والتواضع، والإنسانية، والنقاء… وقد كان واحدًا من هذه النماذج الفريدة.
رحل الجسد، نعم… لكن أثره لا يرحل.
لن يغيب عنّا رجلٌ استطاع أن يجعل الإنسانية جزءًا من الإدارة، والرحمة جزءًا من القرار، واللطف جزءًا من القيادة.
رحل الذي كان يفتح لي شخصياً الطريق حين تضيق، ويُطمئن قلبي حين يهتز، ويضع على كتفي يدًا من نور تقول:
“أكمل… فأنا معك”.
أما على الجوانب التي قد تخفى على كثيرٍ من اصدقاء ومحبي ابا طارق والتي خبرتها معه عن قرب ، أني منذ عرفته وشهادة حق لم التق به قصداً أو مصادفة يومي الاثنين أو الخميس إلا ووجدته صائماً، وقد كان حريصاً على زيارة والديه في المقبرة أسبوعياً ، بل إنه وبعد ان حضر جنازة أخي الأصغر ( يوسف ) رحمه الله فوجئت به بعدها يسألني ليتأكد عن رقم قبر أخي ليشمله في قائمة من يزورهم ويدعو لهم.
يا أستاذي ووالدي ومعلمي…
لقد تركت في داخلي أثرًا سيبقى ما حييت.
“وحسبي أبا طارق أن بعض الرجال لا يموتون… بل ينتقلون من الساحة إلى الذاكرة، ومن الكرسي إلى القلب”.
اللهم اجزه عني وعن كل من عرفه خير الجزاء،
واجعل قبره روضة من رياض الجنة،
وأنزل على أهله الصبر والسكينة، والله اسأل أن يجعل ما قدمه من خدمة للعلم والطلاب والوطن في ميزان حسناته، وأن يرفع درجته مع النبيين والصديقين والشهداء، وأن يجبر قلوب أسرته ومحبيه بالصبر والسكينة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
رحم الله الدكتور محمد بن علي العقلا… فقد رحل الجسد، وبقي الأثر.
• وكيل جامعة ام القرى