المقالات

ما بعد قيصر: سوريا بين الذاكرة والفرصة

لم يكن رفع العقوبات عن سوريا حدثًا عابرًا في سياق السياسة الدولية، بل محطة إنسانية فارقة نُزِعَ فيها ثِقلٌ ثقيلٌ جثم لسنوات على صدور الناس. ثِقل لم يكن سياسيًا بحتًا، بل إنسانيًا واقتصاديًا ونفسيًا. طال الطفل قبل الجندي، والخبز قبل السردية. قانون قيصر الذي رُفع باسم حماية المدنيين تحوّل مع الوقت إلى اختبارٍ قاسٍ لصبر السوريين. عقابٌ جماعي لا يُرى دائمًا في نشرات الأخبار، لكنه يُحَسّ في البيوت وفي المستشفيات، وفي تفاصيل الحياة الصغيرة التي لا تُقاس بالأرقام. فحين تُقاس السياسات بأثرها على الناس يصبح السؤال الأخلاقي حاضرًا: هل يمكن حماية المدنيين عبر تجويعهم؟ ومع انتهاء هذا الفصل تُفتح نافذة جديدة، لا لأن كل شيء أصبح مثاليًا، بل لأن الأبواب المغلقة بدأت تُفتح. وهذا الفتح مهما بدا محدودًا في بدايته يمثّل فرصة لإعادة النظر في المسار وفي طبيعة العلاقة بين السياسة والإنسان. رفع العقوبات لا يعني نهاية التحديات ولا يمحو آثار سنوات ثقيلة من الاستنزاف، لكنه يعني بداية عادلة لمسار مختلف: مسار إعادة البناء وإعادة الثقة وإعادة إدماج سوريا في محيطها الطبيعي عربيًا وإنسانيًا. مسار تتقدّم فيه الواقعية على الشعارات، والأولويات المعيشية على الصراعات الرمزية. والأهم من ذلك أن الشعوب لا تُختزل في قرارات، ولا تُختبر أخلاقيًا عبر لقمة عيشها. فالدولة التي تُحاصَر اقتصاديًا يُحاصَر معها المجتمع بأكمله، وتُقيَّد قدرته على التعافي حتى وإن امتلك الإرادة. سوريا اليوم لا تطلب شفقة ولا معونات بل فرصة، ولا تطلب نسيان الماضي بل عدم معاقبة المستقبل. إنها لحظة دقيقة تتطلّب قراءة هادئة للذاكرة، وشجاعة في استثمار الفرصة، بعيدًا عن إعادة إنتاج الأزمات ذاتها بأدوات جديدة. المنطقة وهي تقف عند هذا المنعطف أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية مضاعفة: إما أن تكون شريكًا في التعافي، أو شاهدًا صامتًا على فرصة ضائعة. فالتاريخ لا يُنصف من يكتفي بالمراقبة، والمستقبل لا يُبنى إلا حين يُمنح الناس حقهم في الحياة أولًا. ويبقى الرهان الحقيقي على وعي السوريين وقدرتهم على تحويل الذاكرة الثقيلة إلى طاقة بناء، واستثمار الفرصة الراهنة بإرادة تعرف كلفة الألم وقيمة النهوض، ليُكتب الفصل القادم بعقلٍ واعٍ وإرادةٍ صلبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى