المقالات

من “ويندهوك” إلى “القدية”: حرية الرأي بين الشعارات والمسؤولية

في مقالي السابق «حرية الصحافة.. بين إعلان ويندهوك وتأكيد الرياض»، كنتُ أؤكد أن النموذج السعودي في الإعلام لا ينسخ تجارب الغرب، بل يصوغ تجربته الخاصة، المتّزنة في الطرح، المسؤولة في الموقف، الحاضنة للرأي، والمُحصّنة ضد الفوضى.

واليوم، يأتي تصريح معالي وزير الإعلام الأستاذ سلمان بن يوسف الدوسري في مؤتمر القدية، يوم الإثنين 22 ديسمبر 2025، ليؤكد هذا المنهج ذاته. حين قال بوضوح:

“حرية التعبير حق أصيل تكفله الأنظمة… لكنها لا تبرر التضليل أو تأجيج الرأي العام”.

تصريح في ظاهره قانوني، لكنه في جوهره أخلاقي، وسياسي، وثقافي.
تصريح لا يُدافع فقط عن القرار الإداري، بل يشرح فلسفة الدولة، ويُعيد ضبط البوصلة بين “الرأي الحر” و”الفوضى المُقنّعة بشعار الحرية”.

هذه الفلسفة السعودية في حرية التعبير لا تُبنى على ردود الأفعال، بل على الوعي التراكمي، وعلى معادلة دقيقة: احترام الكلمة… دون السماح بتحويلها إلى أداة تهديم مجتمعي.

من إعلان ويندهوك الذي أقرّته اليونسكو عام 1991، والذي شدد على ضرورة وجود صحافة حرّة وتعددية ومستقلة، إلى إعلان الرياض عام 2016، حين أكد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أن الإعلام شريك مهم في تقييم أداء الحكومة وتحقيق أهداف الرؤية… كل ذلك شكّل إطارًا ناضجًا لفهم السعودية لحرية الصحافة بوصفها أداة رقابة وتنمية، لا أداة للفوضى أو لتصفية الحسابات.

أما حديث الوزير من القدية، فيأتي ليؤكد أن المملكة لا تُضيّق على الآراء، ولا تُجرّم النقد البنّاء، لكنها في ذات الوقت لن تسمح بأن تتحول المنصات إلى منصات شتم، أو تهييج مشاعر، أو إرباك مجتمعي متعمد.

هنا الفارق بين “النقد المسؤول” و”التحريض الإعلامي”، وهو ما شدّد عليه الوزير بوضوح حين فرّق بين الرأي المسؤول والمحتوى الذي يهدف إلى التضليل أو التأجيج.
وهو خطاب لا يضع الإعلام تحت الوصاية، بل يدفعه لتحمّل المسؤولية.

اللافت في هذا التصريح أنه لا يتعامل مع الإعلام كـ “خطر يجب كتمه”، بل كقوة يجب تهذيبها بالقانون.
ولذلك، فإن الإجراءات المتخذة بحق من يتجاوزون الحدود ليست استهدافًا للصوت، بل صيانة لبيئة وطنية متزنة، يُمكن للرأي أن يُقال فيها، بشرط ألا يكون عبوة ناسفة لفظيًا.

لقد سقطت كثير من الدول، لا بسبب ضعف اقتصادها، بل بسبب تهاونها في إدارة “الوعي العام”.
والدول لا تُدار بالعواطف ولا باللايكات، بل بالوعي، والتماسك، والإعلام المسؤول.

في نموذج السعودية، الإعلام لم يُمنع، لكنه لم يُترك أيضًا بلا ضابط.
وهنا تكمن قوة الدولة حين تفصل بين “التنظيم” و”القمع”، وبين “الرأي” و”التأجيج”، وبين “حرية التعبير” و”حرية الهدم”.

نعم، قد لا تُعجب هذه الرؤية بعض المنظمات الغربية التي تقيس الحريات بعدد الشتائم المسموح بها، أو بعدد المؤتمرات الصحفية التي تتحول إلى مسرحيات هجومية.
لكن السعودية لم تعد تنتظر رضا الخارج، بل تصنع قناعاتها من داخلها، وتبني نموذجها من واقعها، ووفق ما يخدم أمنها واستقرارها وكرامة الإنسان فيها.

وختامًا…
من ويندهوك إلى القدية، ومن الورق إلى الواقع، ومن الشعارات إلى التشريعات…
تؤكد المملكة أن حرية الرأي لا تُلغى… لكنها أيضًا لا تُؤجّج، وأن الكلمة الحرة لا بد أن تكون واعية بمكانها، وبتأثيرها، وبمسؤوليتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى