«ضفاف الوعي»
وأنا أشاهد مقطعًا مرئيًا متداولًا، استعرضته إحدى الناشطات في مواقع التواصل الاجتماعي، لرجلٍ يتهم فيه النساء بأنهن السبب في سقوط الرجل. عرضت المقطع كاملًا أمام متابعيها، ثم أدرجت صورتها إلى جوار صورته، تهزّ رأسها بسخرية، قبل أن تردّ عليه بسؤال واحد وتعليق طويل..
أين غضّ البصر؟
لم يكن المشهد عابرًا بالنسبة لي، ولا الرد بسيطًا كما بدا. كان بناءً بصريًا مكثفًا، صورتان في إطار واحد، اتهام في جهة، وسخرية في الجهة الأخرى، وبينهما سؤال أخلاقي أُقحم في المشهد ليُعيد توجيه النقاش، ومنه تشكّلت فكرة هذا المقال.
في تلك اللحظة، تذكّرت درسًا قديمًا في البحث العلمي إبان دراسة الماجستير، حين كان أستاذ المنهجية يكرر عبارة لا تزال عالقة في الذهن:
“حين تختلف النتائج، لا تبحث عن المتغيّرات الظاهرة فقط… ابحث عن المتغيّر الغائب”.
بدا المشهد وكأنه نموذج حيّ لذلك الدرس؛ طرفان يتبادلان الاتهام، كلٌّ يستند إلى جزء من الحقيقة، بينما يغيب السؤال الأهم: ما المتغيّر الذي لم يُؤخذ في الحسبان، فاختلّت المعادلة كلها؟
لم يعد الصراع بين الرجل والمرأة مجرد خلاف عاطفي عابر، ولا سوء تفاهم ناتج عن اختلاف الطباع، بل أصبح – في كثير من تجلياته المعاصرة – صراع أدوار وهوية، تغذّيه تحولات اجتماعية متسارعة، وتُعمّقه وسائط جديدة، بينما يُدار النقاش غالبًا دون إطار مرجعي جامع.
في السابق، كانت العلاقة محكومة بإطار واضح، حتى وإن شابه القصور أو الظلم في بعض مراحله. كانت الأدوار محددة، والمرجعيات حاضرة، والاختلاف يُدار داخل سياق اجتماعي يعرف حدوده. اليوم تغيّر الوسيط، وتسارعت الإيقاعات، وتداخلت الأدوار، لكن التغيير سبق الوعي به، والصراع سبق الاتفاق على قواعده.
الرجل لم يعد ذلك النموذج التقليدي الصارم، ولا المرأة بقيت في صورتها القديمة المحصورة. هذا التحول في ذاته ليس المشكلة، بل المشكلة أن كل طرف يطالب بحقوقه من زاويته الخاصة، دون أن يتوقف ليسأل: ما الذي نريده من العلاقة أصلًا؟ شراكة؟ أمان؟ توازن؟ أم مجرد إثبات ذات؟
وسائط التواصل الحديثة لم تكتفِ بنقل المشاعر، بل أعادت تشكيلها. الرسائل لم تعد تُكتب على الجدران أو تُخفى في الجيوب، بل تُنشر، وتُقاس، وتُقارن. الخصوصية تقلّصت، والتوقعات تضخّمت، وأصبح الحكم على العلاقة يتم أحيانًا بعدد الرسائل وسرعة الرد، لا بعمق الشعور ولا بصدق النية.
وسط هذا كله، يظهر المتغيّر الغائب بوضوح: القيم التي توازن بين الحق والواجب، وبين الحرية والمسؤولية، وبين الرغبة والضبط. غياب هذا المتغيّر جعل الصراع يبدو وكأنه مواجهة صفرية؛ إمّا انتصار طرف، أو خسارة الآخر، بينما العلاقة في جوهرها لا تُبنى بهذا المنطق.
اللافت أن كثيرًا من النقاشات الدائرة اليوم تبحث عن مذنب أكثر مما تبحث عن فهم. مرة يُحمَّل الرجل كامل المسؤولية، ومرة تُحمَّل المرأة، لكن نادرًا ما يُسأل عن السياق الاجتماعي والثقافي والاتصالي الذي صنع هذا التوتر، وغيّر شكل العلاقة ومعناها.
الصراع الحقيقي ليس بين الذكر والأنثى، بل بين فهم سطحي للعلاقة، وفهم أعمق لمعناها. بين من يرى الشراكة معركة نفوذ، ومن يراها مساحة توازن. وبين من يظن أن التنازل ضعف، ومن يدرك أن التنازل أحيانًا وعي أعلى.
ختامًا
تعلمنا في البحث العلمي، حين لا تُضبط المتغيّرات، تختل النتائج، فإن العلاقات أيضًا لا تستقيم حين يُغفل المتغيّر الأهم. وربما آن الأوان لإعادة طرح السؤال:
من هو المتغيّر الثابت في هذه المعادلة، ومن هو المتغيّر المتحرّك؟
وهل نحن فعلًا أمام صراع تأثير بين الذكر والأنثى، أم أمام مجتمع تبدّلت قيمه، فتغيّر الاثنان معًا، وتأثّر كل طرف بالآخر بقدر ما أثّر فيه؟



