المحلية

مفاهيم التقليد في مجال الصناعة التقليدية السعودية

[RIGHT][COLOR=#FF0026]مفاهيم التقليد في مجال الصناعة التقليدية السعودية.[/COLOR] [COLOR=#3100FF]الصّناعة الموروثة أمانة تاريخية ينبغي صيانتها والحفاظ عليها[/COLOR].[/RIGHT]

بقلم: مصطفى قطبي

[CENTER][IMG]https://www.makkahnews.sa/contents/myuppic/04f57e3a5bbed7.jpg[/IMG][/CENTER]

عادة ما تشير عبارة ‘الصناعة التقليدية’ إلى الصناعة اليدوية العريقة في التاريخ، التي بقيت مرتبطة بالماضي، ولا زالت تمارس إلى يومنا هذا بشكل بدائي وبطرق عتيقة، معتمدة على استخدام المعارف الحرفية الأصيلة وعلى نسخ وتكرار الموروثات الفنية القديمة، فهذه الصناعة لم تظهر فجأة في السعودية، بل ورثناها عن الأجداد، ووصلت إلينا منهم جيلاً بعد جيل، وصارت تعد أحد مكونات تراثنا الوطني المتمثل في تقاليدنا وعاداتنا وثقافتنا، وسُميت بالصناعة التقليدية لأنّها تقوم على أساس إتباع الأسلاف، وتقليد ما اعتادوا على ممارسته من صنائع في إطار احتياجاتهم. وقد استخدم مصطلح ‘التقليدية’ للتمييز بينها وبين الصناعة الآلية المتقدمة والتي جاءت بها الثورة الصناعية في أوروبا. وتعد الصناعة التقليدية التي نفتخر بها ونعتز ويفتخر بها الوطن، مسؤولية وطنية وأمانة تاريخية في أعناقنا جميعاً، وواجب أن نحسن استخدامها واستغلالها، ونحافظ عليها من الضياع، ونتمسك بها، ونضيف عليها، ونبدع فيها، ونطورها، وندفعها نحو التقدم لضمان لها البقاء وتنتفع منها الأجيال اللاحقة الذين سيسألون عنها وسيحاسبوننا عليها، فالأمانة عبء على من يتقلدها ويلتزم بها.

وتزخر الصناعة التقليدية السعودية بأنشطة متعددة ومختلفة، لها من الخصائص الجيّدة ما يُمكنها من البقاء، وإثارة اهتمام الأجيال المتعاقبة، غير أنّها تعاب لأنّها تتسم بالإتباع للسلف وتقوم على تقليد ما بقى من التراث الحرفي من أشياء وأشكال وأساليب قديمة، والتي يحاول الحرفيون التقيّد التام بها. ولا تكاد تذكر الصناعة التقليدية إلا و يذكر الماضي فقط في قيمه وعاداته وتقاليده وما أنجزه القدماء الأولين. واللافت أنّ كثيرين لا يفهمون معنى ‘التقليدية’ أو ‘التقليدي’، ويوجد من لا يعرف معنى كلمة ‘التقليد’ رغم أنّها جارية على الألسن وتستعمل في صور عديدة وتحمل الكثير من الدلالات والمعاني.
وهذا ما دفعنا إلى القيام بهذا البحث من أجل توضيح مفهوم كلمة ‘التقليد’ وتحديد علاقتها ببعض المفاهيم الأخرى، وذلك مع محاولة إيجاد تفسير معاصر لها. وقد اعتمدنا في تحديد سياقاتها ودلالاتها ومعانيها ومشتقاتها المختلفة على ستة معاجم هي: لسان العرب والقاموس المحيط والغني ومحيط المحيط والمعجم الوسيط والمحيط.

مفهوم التقليد:

إنّ مفهوم ‘[COLOR=#FF0045]التقليد[/COLOR]’ من المفاهيم الأكثر استعمالاً والأوسع انتشاراً ويدخل في مختلف الميادين، لكن أغلب الناس يسيئون فهم معناه بسبب المفهوم الضيق العامّي الذي يُشابه التقليد بالرجعية وحتى التخلف عن مسايرة التطور، وذلك لأنّ الصناعة التقليدية مرّت للأسف بفترات من الجمود الفكري والعقلي، فكانت غالبية المنتجات تكراراً وإعادة لما صُنع من قبل.
ومن هذا القبيل فإنّ الناس يروا أنّ التقليد هو سبب التأخر لارتباطه ارتباطاً شديداً بالماضي، واعتماده على المعارف والممارسات القديمة بدون تطوير. كما أنّ البعض من الناس أعطى كلمة تقليد مفهوماً سلبياً مهيناً ومثيراً للاستهجان، وذلك بربط معناها بفعل الحيوان الذي يُحاكي بلا تفكير ولا تفنن كالقردة والببغاوات. لكن هذا الأمر لا يُثير الاستغراب، لأنّه من مجرد سماع كلمة ‘تقليد’ يمكن توقع هذا المفهوم والوصول إلى معرفته لأول وهلة، وذلك لأنّ استخدامها مألوف وشائع بين عامة الناس في معنى ‘المحاكاة’.

ومن الملاحظ أنّ كلمة ‘[COLOR=#FF002E]تقليد[/COLOR]’ التي يشير مفهومها عادة إلى التراث، تستخدم أيضاً في المجال الصناعي ولها تقريباً نفس المفهوم. وكانت في أول الأمر تعبّر عن حالات ‘تبنّي أفكار وتجسيدها على ما هو عليه من دون تغيير’ بشكل متعمد أو غير متعمد وبقصد أو غير قصد، ثم صارت تعني ‘صنع أشياء جديدة عن مثال أو في محاكاة لأشياء موجودة’، وبعد ذلك أصبحت تدل على عمليات ‘الإعادة والاستمرار في استخراج نُسخ طبق الأصل’، أي بمعنى مواصلة تكرار الإنتاج بصورة متشابهة.
وفي هذه الأيام، استقر معنى كلمة تقليد على عبارة ‘كثرة الاستنساخ واستمراره’. ورغم أنّ لفظ الاستنساخ حديث جدّاً. فهو واضح المعنى، بعيد عن الغرابة، ولا يحتاج إلى تفسير. ويغلب استخدام هذا اللفظ في مجال الطب والعلاج، وذلك بمعنى التوأمة التي تعتمد على مضاعفة الخلايا بهدف الحصول على نسخ من النبات أو الحيوان أو حتى أعضاء البشر، تكون متطابقة الخصائص ومماثلة للأصل.

وكذلك تستعمل كلمة ‘التقليد’ في المجال القانوني للدلالة على حالة الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية الصناعية، بمعنى ‘التزييف’، بخاصة عندما تكون عملية الاستنساخ مقصودة على سبيل التدليس أو السرقة طلباً للكسب والمنفعة من الاستيلاء على أفكار الآخرين وعلى جهودهم وحقوقهم. ونفعهم من هذه الحالة أنّ البعض يلجأ إلى العمل على نقل أفكار أو ابتكارات أو تصاميم عن الغير، بشكل كلّي أو جزئي، وبنسبها إلى نفسه، ثم يُتاجر في النسخ المنسوخة لها. وهذا النوع من التقليد هو عمل مذموم غير مقبول حتى ولو تعرّض المنقول للتعديل أو التحسين، فهو يدخل في باب الغش الاحتيال والخداع والتهور، ويعتبر جريمة سرقة يعاقب عليها القانون حفاظاً على حقوق المبتكرين الحقيقيين أصحاب الأفكار الأصلية. وقد عالج المشرع قضية التقليد فتناول عدّة مصطلحات في هذا المضمار منها السرقة والتزييف والتدليس والتزوير والأخذ والاحتذاء والنقل والنسخ والتأثر والاقتباس والإغارة والسطو والغضب.

ولابد من الإشارة هنا إلى أنّه لا ينبغي الخلط بين ما هو علم مشترك لدى الجميع والذي لا يمكن نسبته إلى أحد بعينه، وبين ما هو خاص الذي يختص به شخص دون غيره، ويتميز بطابع ابتكاري له خصوصية فنية. فالتقليد الذي يقوم على الأخذ من الأشياء الموروثة المشتركة بين الناس، والمتداولة بين الأجيال المختلفة، والتي هي شائعة في عاداتهم، ومستعملة في حياتهم اليومية، لا يجوز فيه ادعاء السرقة لما فيه من الإتباع والتأثر بالقدماء الأولين من أهل البلاد، فيحق للجميع تقليدها دون قيود، ولا يستوجب لومهم على نقلها عن التراث، ومن الملاحظ أنّ بعض المبتكرين من الحرفيين الحاذقين المهرة، يلتجئون أحياناً إلى إعادة تشكيل ما هو مألوف معروف من التراث المشترك، وذلك بإدخال عليه بعض التغييرات والإضافات الفنية من عندهم، والتي من شأنها أن تبرز شخصيتهم وفكرهم وخيالهم وتميزهم عن القدماء السابقين. في هذه الحالة يحق للقائمين بالتحويرات الإبتكارية الاستفادة من الحماية، ويحاسب كل من يتعدى عليها بالسرقة سواء كانت سرقة واضحة لا تخفى على أحد أو سرقة غامضة لا يستطيع اكتشافها إلا الحاذق بالصناعة.

أمّا بالنسبة لموضوعنا الأساسي، فإنّ المعنى المقصود من لفظ ‘تقليد’، مع كونه له بعض العلاقة بالمحاكاة والنقل والاستنساخ، إلاّ أنّه أكثر شمولاً ويتخذ مفاهيم ومعان عديدة تتصل بالعلاقة بالواقع والعصر، والعمل اليدوي، وحب الوطن، واحترام تراث البلاد، وتنمية الكفاءات المهنية، وتطوير القدرات الإبداعية، واكتشاف المواهب، وإتباع الصناع الحاذقين للاقتداء بهم واكتساب المعارف والخبرات منهم، أي بمعنى آخر أنّه لفظ مشترك يحمل دلالات عدّة ومختلفة، يحدّدها السياق الذي ورد فيه، ولا يتبادر ذهن السامع إلى معنى معين من معانيه إلا على ضوء موقعه في السياق.
ولمعرفة معاني كلمة التقليد معرفة علمية موضوعية يجب علينا أن نبدأ أولاً باستقصاء مواقع استخدامها حتى نستطيع استنباط طبيعة التقليد من واقعه.

[COLOR=#FF000F]أمثلة على استخدامات كلمة ‘التقليد’: [/COLOR]

كما سبق أن أشرنا فإنّ الطريقة الأكثر وضوحاً لتعريف ‘التقليد’ هي معرفة استخداماته والسياقات التي يرد فيها، بغض النظر عن الدلالة المعجمية.
وفيما يلي بعض الأمثلة من هذه الاستخدامات:
1 ـ استخدام التقليد بمعنى التقاليد:

قبل أن نخوض في استعراض بحثنا هذا لابد أن نقف أمام كلمة سالتقاليدس. وكلمة سالتقاليدس، جمع مفرده تقليد، وهي المقابل العربي للمصطلح الفرنسي traditions وتعني هذه الكلمة، بحسب المفهوم العام وتفسيرات المعاجم والقواميس العربية والأجنبية، العادات المألوفة التي اجتمع عليها الناس واعتادوا على تكرار ممارستها بشكل متتابع يومياً أو دورياً في مناسبات عديدة ومختلفة، والتي تظهر في الأقوال والأفعال والتصرفات والأعمال والأخلاق والمناهج والمبادئ والقيم والأساليب والمعارف والأنشطة المهنية، وغير ذلك من الخصوصيات الاجتماعية الثقافية المرتبطة بالماضي، والتي تتوارثها الأجيال وتتناقلها على مر السنين.

هذه التقاليد المنقولة تمارس بدوافع التبعية للأسلاف والاقتداء بهم لكونهم القدوة الأولى التي يقتدى بها. ولذا فإنّها تصبح مقدّسة إلى درجة العبادة، ممّا يستوجب التمسّك بها، والمحافظة عليها، والتقيّد بها، لا زيادة ولا نقصان، ولا تطور ولا تحديث. ولا يجوز مخالفتها أو انتهاكها، إذ يعتبر التحرر منها، سواء كانت سيئة أم حسنة، تمرداً على العادات وابتعاداً عنها وثورة عليها، كما يُعد خروجاً عن تراث الآباء والأجداد، وانسلاخاً عن الهوية. ولكن ما يجب ملاحظته بهذا الخصوص، أنّ التمسك ببعض التقاليد كما هي معروضة في التراث القديم وممارستها بدون الإدلاء بأي فهم أو تفسير لها، هو أمر مستهجن، لأنّ هذا النوع من التقليد ليس مؤسس على العلم بل على الجهل والتعصب والانغلاق، وعلى تمجيد الأجداد ونقل الماضي إلى الحاضر. فهو لا يعني سوى تمجيد العقول، والحرمان من الاجتهاد، والرجوع إلى الوراء، والانفصال عن الواقع، كما يعني استمرار تغلغل التخلف في جميع مستوياته الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمعرفية.

أمّا التقليد المبني على الاقتداء بمن هو أنموذج يكون عالم وعارف بما يفعل، ومساعد على الاهتداء لما هو أفضل، فهو تقليد محمود ومرغوب فيه، وقد أمرنا الله تعالى بنبذ التبعية الجاهلية واتباع من يتمسك بالدليل العلمي العقلي.
التقليد إذن لا ينبغي أن يكون مجرد محاكاة أو تبعية سلبية للعادات الاجتماعية القديمة عشقاً للتخلف وتمسّكاً بالجهل، ولا ينبغي كذلك أن يكون تنصلاً من العصر وهرباً من الواقع. فالتقليد المقبول هو الإتباع المدروس للأوائل، والذي لا يقوم إلاّ على أساس الفكر والمنطق والعلم. ومن الضروري هنا أن نشير إلى هذه الملاحظة، وهي أنّ التقاليد القديمة، والتي تعود لمئات أو آلاف السنين وتناقلت من جيل لآخر، فإنّ تناقلها يكون دائماً مصاحباً ببعض التغيرات بالزيادة أو النقصان نتيجة تغيّر الظروف الاجتماعية. فالأجيال لا يمكن أن تكون متشابهة في ثقافتها، وأن تكون صورة متكررة من أسلافها. ولذلك يستحيل أن تكون هذه التقاليد دائما مطابقة لنفسها وتكراراً خالصاً، بل تكون دوماً مقارنات ونقداً وتقاليد أخرى، متحولة ومستجدة وحديثة ومعاصرة ومختلفة وفريدة، وليس بالضبط هي القديمة. وهذا أمر طبيعي يحدث في كل عصر، لأنّ كل جيل ينقد الجيل الذي قبله ويحاول أن يتفوق عليه من حيث الإبداع والتطور. والملاحظ أنّ كل تجديد لا يكون إلاّ عملية تابعة لما سبق وامتداداً له.

2 ـ الإستخدام الإجتماعي التراثي:

هو الاستخدام الأكثر شيوعاً ويقصد به أنّ التقليد هو تعبير يشير بشكل عام إلى مدى الإخلاص والاندماج والمحبّة التي يُبديها الحرفي تجاه التراث من خلال تفانيه ورغبته القوية وجهده المتواصل للحفاظ عليه واستمرار بقائه. فهو إذن قضية تبادل المنافع والمزايا بين التراث والصناع التقليديين، وفي نفس الوقت قضية اعتقاد قوي وقبول من جانبهم بمبادئ وقيم الماضي التي يدافعون عنها ويعملون بها ويستندون إليها في بناء شخصيتهم واكتساب المعارف والخبرات والمهارات التي تسمح لهم بممارسة لائقة لنشاطهم. ويعتبر إشباع هذه الرغبات والاحتياجات هو أساس الدوام، ولكن في حالة فقدان هذه المنافع المتبادلة أو عدم القدرة على استغلال التراث باعتباره مستودع أفكار، فإنّ ذلك يُشعر بإمكانية الاستغناء عنه ويؤدّي حتماً إلى تدمير التقليد.

إذن التقليد يعني الغوص في المخزون التراثي لتفحّص وفرز الموروث، فنأخذ ما يُناسب مجتمعنا ويستجيب لحاجاتنا العصرية، ثم نُعيد تشكيله ونجدّده بما يتناسب مع التطور الذي تشهده البلاد حالياً، وذلك حتى لا يظل إنتاجنا التقليدي متخلفاً عن مظاهر التقدم. فالتقليد هو الوعي بواقعنا والاقتناع بأهمية تراثنا الوطني، وهو الوسيلة التي تؤدّي إلى المساهمة في تحسين سمعة تراثنا وتصحيح صورة صناعتنا التقليدية أمام عيون الآخرين حتى لا يأخذونها بعيوب بعض الحرفيين.
وليست القضية هي تقليد أعمى مبني على العاطفة من أجل المداومة في الثقافة الوطنية. وليست أيضا مجرد التمسّك بالتراث القديم والنسج على منواله من أجل عرضه في متاحف التراث القديم لننظر إليه بانبهار ونفخر به، وإنّما هي قضية نقل ما وصلنا، ولا يمكن للمنقول أن يصل إلى مآله من دون إدخال تحسينات عليه، تكون على الأقل بمثابة احترام للأجيال السابقة وفي نفس الوقت للأجيال اللاحقة التي ستستنير من إبداعات ومهارات الأسلاف. فلولا التقليد لما تناقلت المعارف والخبرات بين الأجيال. ولما تطوّرت الصناعات واستمرت إلى يومنا هذا.

وأهم ما يمكن أن نستنتجه من وراء كل ما سبق، أنّ التقليد يحتوي على عنصرين هما:
الأمانة والإبداع، لأنّه من ناحية، تعتبر الصناعة الموروثة أمانة تاريخية في أعناقنا ينبغي صيانتها والحفاظ عليها، وذلك إلى حين توصيلها وتسليمها حيّة متطورة وفي حالة جيّدة إلى الأجيال القادمة، ومن ناحية أخرى، تعتبر ممارسة التقليد الإيجابي البناء، هي الوسيلة التي تعود بالصناعة التقليدية إلى تطوّرها الحضاري الطبيعي، لتكون أكثر تقدّماً وإبداعاً فيها وأكثر انفتاحاً على الواقع وعلى كل جديد وحديث، مما يضمن لها في الوقت ذاته مزيداً من الدوام.
فالتقليد بهذا الشكل هو ليس تناقض مع التقاليد، بل هو الانفتاح المطلوب الذي يقوم على أساس من التفكير والبحث والتحليل والتجارب، خاصة وأنّ في هذا العصر أصبحت السيادة للتطور والتقدم والتجديد. وعلى عكس ما يعتقده البعض، فإنّ الصناعة التقليدية هي من أكثر الصناعات قبولاً للتغيير والتجديد والإبداع، ومن ميزاتها أنّها تضم خليطاً من الطرز المتنوعة والأنماط الفنية المختلفة، وأنّها تحتفظ في نفس الوقت بخصوصيتها الأصلية التي تبقى عالقة في الذاكرة الجماعية، وتظل هي السائدة والمهيمنة على كل تجديد وإبداع.

3 ـ استخدام التقليد بمعنى التدريب وكسب الخبرة:

إنّ الخبرة هي عبارة عن تراكم معرفي فطري أو مكتسب يأتي عن طريق التدريب والتلقين أو نتيجة للتجارب التي يمر بها الحرفي أثناء ممارسة عمله. وبتكرار هذه الممارسات تزداد الخبرة وتتحسن الكفاءة المهنية التي تمثل عامل من عوامل التميّز والمنافسة بين الصناع التقليديين.
لذلك تترافق كلمة ‘خبرة’ غالباً مع لفظ ‘تقليد’، ويعتبر التقليد الوسيلة الوحيدة للحذق في الصنعة والتفنن فيها وإتقانها، فكلّما كان الحرفي أكثر تقليداً كلما زادت خبرته وكان أكثر حذقاً وإتقاناً واستعداداً لمزيد التعلّم. و أبرز ما يمكن ملاحظته في هذا الشأن أنّ التقليد يعدّ من أهم الأمور التي تساعد الصغار المبتدئين على التعلّم وأخذ الخبرة عن الكبار. وهذا شيء عادي أن يستفيد الجيل اللاحق من الجيل السابق حيث لا يمكن أن يستغني الأخير عن الاستعارة من الأول، ولكن الجيل الذي تنتقل إليه المعارف فهو يعدّلها أو يزيد عليها أو يحذف منها، ثم ينقلها إلى الجيل الذي يليه. فمنذ العصور البدائية استخدم الإنسان التقليد كوسيلة لنقل فنونه ومعارفه من جيل لآخر حتى اكتسب على مرّ العصور الخبرات والمهارات التي أوصلته إلى ما هو عليه الآن من تقدم وتطور وازدهار. وكل ما ابتكره الإنسان واخترعه لتلبية حاجاته جاء نتيجة ممارسة التقليد المدروس، الذي يؤدي دائماً إلى توالد الأفكار بعضها من البعض الآخر، ويجعل الناس يتأثرون تأثيراً كبيراً بعضهم بالبعض.
فبهذا المفهوم يصبح التقليد سبباً من أسباب التقدم وليس العكس، لأنّه يقوم على التفكير والتأمل وتوجيه الذات. كما أنّه يُوجب التلقين والتعلّم، ولكن ليس انطلاقاً من الصفر وإنّما ابتداءً من تقليد الموروث المشترك المشاع بين الناس، والذي تجتمع فيه تجارب وخبرات السابقين. ومن خلال ذلك يمكن قياس نجاح المبتدئين بمقدار مطابقة المنقول مع النموذج الأساسي المقلد، وبمدى حذقهم للصنعة وتفننهم فيها.

ومما هو جدير بالذكر أنّ التعلّم الذي يقوم على إتباع الصُناع الحاذقين المهرة باعتبارهم قدوة يقتدى بهم، يجعل المبتدئين صُناع أفضل عندما يستقلون بأسلوب خاص يهم يتميّزون به، لينتقلوا بعد ذلك من مرحلة التقليد الواعي إلى الابتكار المبهر. والفرق شاسع بين من هو خاو فكرياً متعوّد على التبعية وتقبل القديم بلا نقد، ولا يضيف شيئاً ولا يفعل أكثر من تقليد ونسخ أشياء موروثة ليست لها غاية، وحرفي متميّز بشيء عن الآخرين في كونه يحترم التقاليد الصناعية ولكنه يطوعها في الوقت نفسه بإبداعه الفكري المفيد، وذلك حتى لا يكون عمله تقليداً ميّتاً وموجهاً إلى الأموات، وإنّما عمل إنتاجي وإبداعي متميّزاً، مواكباً للعصر، وله قيمة فنية اقتصادية، مما يضمن له تحقيق أرباح، والتخلص من الجمود والتبعية الجامدة وحالة الذوبان في الآخرين.

أمّا الناقل الذي لا يبحث، ولا يعرف ما ينقل؟ ومن أين يبدأ؟ وكيف ينتهي؟ والذي ليس له هدف ولا يستعمل عقله في عملية النقل، فقد يشوّه ما ينقله ويُسيء إلى عمله ومستقبله، سواء أكان هذا التصرف شعوري أو غير شعوري. ولذا فإنّه يبقى دائماً غير مؤهل لاختراق جدار العزل والانغلاق. فهذا النوع من التقليد يتصف بالسلبية والرداءة، والانحطاط، ويدل على العجز وهبوط الذوق وعلى قلّة الوعي والإدراك للواقع ومشاكله. ويمكن اعتباره أحد أسباب الأزمة الواقعة في الصناعة التقليدية السعودية عند بعض الحرفيين. ونستطيع القول أنّ هذه الحالة التي تسودها العبثية والفوضى وإضاعة الوقت، تعود إلى فقدان القدوة وغياب الرؤية والهدف.

4 ـ ترابط التقليد مع مفاهيم أخرى:

بناءً على كل ما تقدّم من ملاحظات نستنتج أنّ التقليد نوعان:
أحدهما تقليد سلبي جامد ومتحجر يدعو إلى الخمول أو التخلف والتبعية الرخيصة، و الآخر تقليد إيجابي حيّ ومتغيّر يدعو إلى البحث والتفكير والتأمل في الماضي والحاضر والمستقبل، لأنّه ما كان صالحاً بالأمس من أساليب وأشياء والتي استخدمناها في السابق، لم تعد هي الأجدى والأنفع في الوقت الحاضر، بخاصة وأنّنا نعيش اليوم عالماً يختلف كثيراً عن العالم الذي كنا نعيشه منذ سنوات مضت. فمن الواجب علينا أن نختار التقليد الواعي الهادف البنّاء للارتقاء بصناعتنا التقليدية المنافسة. وذلك حتى نستطيع مواجهة التحولات الهائلة والتغيرات المتلاحقة والتطورات السريعة التي يشهدها العالم في كافة القطاعات.
أمّا بالنسبة للمفاهيم التي يمكن استخلاصها ممّا سبق عرضه من استخدامات للتقليد والتي لا تختلف كثيراً عن مفهومه فهي:
العمل اليدوي، والمحاكاة، والأخذ، والاستعادة، والاستعارة، والاقتباس، والتأصيل، والنقل، والنسخ ، والتصوير، وكثرة الاستنساخ، والاستمرار، والتقيّد، والتراث، والألفة، والعادة، والتعوّد، والتأثر، والولاء، والإتباع، والإقتداء، والإحتذاء، والإهتداء، والإتقان، وأداء الأمانة، والاستلام والتسليم، والتواصل، والتدريب، والتعلم، وكسب الخبرة والمهارة، والتفنن، والتفاعل، والتحسين، والإبداع، والتجديد، والسرقة، والإغارة، والتدليس، والتزييف، والتزوير…
والملاحظ أنّ هذه العبارات عادة ما يشرح بعضها البعض الآخر.

وعملاً على تشخيص المعنى المقصود من ‘التقليد’ تشخيصاً كافياً، لابد لنا أن نعمل على تعريف هذا المصطلح تعريفاً لغوياً دقيقاً وبصورة أكثر توضيحاً وتحديداً، وذلك مع بيان الأسباب التي أدّت إلى ظهوره. وما يمكن استخلاصه أخيراً من كل ما توضح سابقاً، أنّ المعاني الأساسية لكلمة ‘التقليد’ تتلخص فيما يلي:

1 ـ التقليد : هو قلد القلادة، بمعنى فتل الفتيلة أو الخيط أو الوتر أو الشريط أو الحبل، ويقال حبل مقلود أي مفتول.
2 ـ التقليد : هو ربط القلادة في عنق الدابة بمعنى يُجعل الحبل حول عنقها لتُقاد به.
3 ـ التقليد : هو الإشعار والإعلام بمعنى تمييز البدن من الإبل والبقر والغنم يوم النحر بتعليق القلائد على أعناقها كعلامة على كونها هدايا لله حتى يأكلها المساكين.
4 ـ التقليد : هو تعليق الثوم أو الفلفل في الخيط.
5 ـ التقليد : هو تطويق العنق بالقلادة، بمعنى تزيين العنق والصدر بحلية من الخرز والذهب تعقد حول يأكلوها المساكين.
6 ـ التقليد : هو تعليق السيف على الكتفين خلف العنق.
7 ـ التقليد : هو المحاكاة بمعنى اتخاذ نموذج والنسخ على منواله، إمّا من حيث الشكل، وإمّا من حيث الزينة، وإمّا من حيث الاثنان معاً، والمحاكاة هي سلوك فطري يقوم على التعجب والإعجاب والتأثر وحب التميّز والارتقاء لاكتساب صفات أفضل عن طريق مشابهة ومماثلة ومطابقة ما هو أجمل وأحسن.
8 ـ التقليد : هو النقل والاستنساخ والتكرار والتصوير والإعادة والاقتباس.
9 ـ التقليد : هو السرقة بمعنى الاستيلاء على جهود الآخرين والاعتداء على أفكارهم وبيع النسخ المنسوخة طلباً للكسب والمنفعة.
10 ـ التقليد : هو اتباع التقاليد المهنية الأصيلة، والالتزام بقواعد الصنعة، والتقيد بأصولها ومبادئها وقوانينها، والاقتداء بمن هو قدوة له معرفة أو خبرة.
11 ـ التقليد : هو التعليم أو التدريب في مقام العمل والذي يقوم على تبعية الصانع الحاذق المميز والمشهور بين الصنّاع، والجامع لمعارف الصنعة، وذلك بالعمل تحت إشرافه وبإرشاده، وأخذ النصيحة منه لتطبيقها، والعمل وفقاً مع تكرار المحاولات للتمكن من الصنعة.
12 ـ التقليد : هو الرجوع إلى التراث، والأخذ منه، وإعادة الصنعة إلى أصولها، عبر البحث عن الأصالة للاستدلال بها، والاعتماد عليها، ومطابقة الصنع لها.
13 ـ التقليد : هو إحياء التراث من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية.
14 ـ التقليد : هو التفنن والإتقان والإبداع عبر التفاعل مع المستجدات حتى يتسنى تسليم الأمانة للأجيال اللاحقة على أحس حال.
15 ـ التقليد : هو تولية المهام والمناصب والأعمال والأمور وتحميل الأمانة، بمعنى تطويق العنق بقلادة المسؤولية.
16 ـ التقليد : هو تعليق وسام التقدير الذي تمنحه الدولة تكريماً لمن يستحقه.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. دائما أتابع جديد مكة دراسة تستحق التنويه والاشادة وفقكم الله

  2. مقال يستحق القراءة والإعادة ونشره على نطاق واسع.فقد تعرفنا على الصناعة التقليدية السعودية ومفاهيمها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى