ليس من يملك المال هو الغنيّ حقًّا. نعم، هذا مصطلح يُطلق على من لديه المال، وخاصة إذا كان بالمليارات. ولكن هل ينتهي ذلك الشغف؟ لا، وكلا. فهكذا… مليار وراء مليار؛ طموح أو شغف أو جشع — أيًّا كان العنوان — فالغاية واحدة: جمع المال وتكديسه. ورغم تحقيق تلك الأماني، نسمع عن بخل الكثير على من يلوذ بهم، وإحجامهم عن دعم المجتمع.
الغنيّ هو غنيّ النفس، ومن يعطي ولو به خصاصة. فقد يكون ما باليد إلا مجرد بعض المال، ولكن صاحبه عندما رأى من هو أحوج منه جاد به أو ببعضه، ففرّج عنه.
الغِنى تفاصيل كثيرة، وليس مالًا فقط، بل أيضًا صوادف ومنصّات ومواقف. وأرى أن الغنى والكرم صنوان لا يفترقان؛ نعم، هناك من يفرّق بينهما، ولكن هيهات أن يكون غنيًّا. وربّ موقف في ساعة حاجة هو أكثر ندىً وأعلى كعب كرمٍ من مالٍ وإن كثر.
قال المتنبي:
مهلًا نوارُ أَقِلّي اللومَ والعَذَلا
ولا تقولي لشيءٍ فاتَ ما فَعَلا
ولا تقولي لمالٍ كنتُ مُهلِكَهُ
مهلًا، وإن كنتُ أُعطي الجنَّ والخَبَلا
يرى البخيلُ سبيلَ المالِ واحدةً
إنَّ الجوادَ يرى في مالِه سُبُلا
لا تعذليني في مالٍ وصلتُ به
رحمًا، وخيرُ سبيلِ المالِ ما وَصَلا
يقول بيل غيتس:
سألني أحدهم: «هل يوجد أحد أغنى منك؟» فأجبت: «نعم».
عندما لم أكن غنيًّا ولا مشهورًا، أردت شراء صحيفة ولم أملك المال الكافي، فقال البائع: «خذ الصحيفة»، وأصرّ، فأخذتها. وبعد فترة تكرّر نفس المشهد. وبعد 19 عامًا أصبحت غنيًّا ومشهورًا، فبحثت عنه حتى وجدته. قلت له: «أتتذكر المرّة التي أعطيتني فيها جريدة مجانية؟»
فقال: «بل أعطيتك إياها مرتين».
فقلت: «أريد ردّ الجميل، قل لي ما تريده».
فأجاب: «أتظن أنك ستردّ لي الجميل؟ لقد ساعدتك وكنتُ بائعًا فقيرًا، وأنت تحاول مساعدتي وأنت أغنى رجل في العالم! كيف تُضاهي مساعدتك مساعدتي؟»
في ذلك اليوم أدركتُ أن بائع الصحف أغنى مني.
وأختم بموقفٍ مرّ بي يشهد بأن الغنى ليس المال وحده، ولا بد من ذكر الفعل لمعرفة مدى وعلوّ كعب ردّ الفعل، وإن بدا أن الأمر ليس كبيرًا.
كُلِّفتُ بمرافقة الشيخ سعد السالم الصباح رحمه الله في الحج. وبعد وصولنا إلى منى، استأذنته للذهاب إلى جدة لزيارة الوالدة رحمها الله. وفي الحجون كان هناك توقّف طويل، فنزلت من سيارتي واستقللت سيارة أجرة وذهبت إلى جدة، ثم عدت مع نسيبي إلى موقف سيارات الأجرة. في الطريق مرّت سيارة أجرة فيها شخصان، رفع السائق يده بالسلام، فرددنا السلام دون أن نعرف من هو.
وعند الموقف كانت المفاجأة: لا توجد أي سيارة! انتظرنا حتى جاءت سيارة. قلت للسائق: «لا يوجد إلا أنا… توصلني إلى مكة ثم منى؟ وسأدفع كامل الحساب». فقال: «أبشر». وعندما وصلنا إلى منى أردت أن أدفع، فحلف ألّا يأخذ ريالًا. قلت: «لا بد أن تدعني أدفع». فقال: «اسمح لي أشرح لك وبعدين تقرّر». وروى لي القصة:
«كنت أعمل في مرور جدة، ومررت على قسم الحوادث، وكان أحدهم موقوفًا بسبب حادث تلفيات. وعندما رآني قال: يا نقيب نصيتك. قلت: تفضل. قال: ما معي مال، وأبيك تكفلني، وأنا والله لأعود وأسدد. فقلت لزميلي: أطلقه، وإن ما عاد بسدّد عنه».
وكان صاحب هذا الموقف هو ذاته الذي سلّم علينا قبل قليل؛ لأنه كان ذاهبًا من المواقف إلى منزله بعد يوم طويل، ولما شاهدني وعرف أن المواقف خالية، أوصل أخاه ورجع من أجلي.
أيّ جمالٍ في الكرم هذا؟ وأيّ وفاءٍ يفوقه؟
لقد عجبت وطربت من هذا الطيب العفوي الكريم. قبلت منه… حتى لا أجعله أسير موقف يظلّ معه طوال حياته. فمن الكرم أن تقبل عطاء الكريم.
هاتان الواقعتان — وصاحباها ليسا من ذوي الملايين — ولكنهما قاما بما هو أكبر وأثمن.
الغنى ليس في المال الذي تعدّه… بل في النفس التي تفيض جودًا ووفاءً.
فكم من صاحب مليارات لا يعرف من المال إلا العدّ، فلا جود ولا بذل حتى لأقرب الناس.
يقول الحسين بن علي رضي الله عنه:
إذا جادتِ الدنيا عليك فجُدْ بها
على الناس طرًّا قبل أن تتفلّتِ
فلا الجودُ يُفنيها إذا هي أقبلت
ولا البخلُ يُبقيها إذا ما تولّتِ



