
وتعدّ صورَ الكتاب الفوتوغرافية الملوّنة للمسجد الحرام والمشاعر المقدسة بمكة المكرمة أول الصور الملوّنة الملتقطة لهما كما أشار إلى ذلك د.معراج مرزا و د.عبدالله شاووش في كتابهما الفخم “الأطلس المصور لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة” ؛ لذلك اكتسبتْ تلك الصور أهميتها التاريخية في التوثيق الفوتوغرافي المبكّر لمعالم البلد الأمين .
كان صاحبُ الرحلة يحمل الجنسية الأمريكية ، و هو باكستانيٌ هاجرَ والدُه إلى كينيا وحقق نجاحات كبيرة وأعمال خيرية وفيرة تولى إدارتها عبدُ الغفور الذي قامَ بزيارةِ الجمعيةِ الجغرافيةِ الوطنيةِ بواشنطن في عام 1952م وأعلنَ عزمَهُ على الحج ورغبتَهُ في تسجيل الرحلةِ فوتوغرافياً كوسيلةٍ لبيانِ شعائِرَ الإسلام للغرْب ؛ فما كانَ من الجمعية إلا أن أعارتْهُ آلةَ تصوير أثمرتْ تلك الصور الرائعة بالكتاب .
وقد بلغَ عددُ الصور الفوتوغرافية 48 صورةً منها 3 صور بالمدينة المنورة والباقية في مكة المكرمة والطريق إليها عبر جدة والظهران ، ومن الصور 36 صورة ملوّنة والباقية 12 أبيض وأسود ، هذا بالإضافة إلى تضمين الكتاب خريطتين : إحداهما لمكة والمشاعر المقدسة والأخرى للجزيرة العربية والدول المحيطة بها ، ولم تخلُ صورةٌ بالكتاب من تعليقاتٍ توضيحية كتبَها الحاجُ عبد الغفور ؛ فهو يستثمرُ الكلمة والصورة معاً في بثّ دعوتهِ للغرب ونشْرِ أخلاق ومعالمِ الإسلام في أرضِ ولادتهِ وانتشارِهِ للعالمين مستخدماً لغةً غنيةً بالبيان في تصويره لمراحل رحلةٍ أجاد المترجمُ الأستاذ غالب المصري في نقلها محتفظةً بأسلوبها التعبيري الجميل .
وهكذا انطلقتْ رحلة حج عبد الغفور الاستكشافية عام 1371هـ إلى مكة المكرمة ليبدأ مسار الرحلة من أمريكا عبر طائرة “بان أمريكان” التي هبطتْ به في الظهران ، ومن ثَمّ غادرَ إلى جدة التي عانى من جوّها الحار المُفعم بالرطوبة ، لينتقل بعد ذلك إلى مكة عبر إحدى السيارات ويصفَ مشاهداتِه في الطريق الممتلئ بالحجاج على “شقادف” الجِمَال ، وبعض الحافلات والسيارات الصغيرة ، إضافة إلى الحجاج الرّاجِلين على الأقدام مَسيرة ذلك الطريق المُرهِق ، وكان الحاجُ عبد الغفور مُلتصقاً بكاميرته طيلة الرحلة ، والتي كان فيها ضيفاً على الأمير فيصل بن عبد العزيز نائب الملك على الحجاز ؛ مما سهّل عليه الحصول على الإذن الرسمي بالتصوير من المسؤولين .
يطولُ حديثُ عبدِ الغفور حينما يصف لحظة دخوله مكة سحَراً وقد أضاءتْ المصابيح الزيتية أركان الشوارع وسط تناثرٍ لأكواخ الفقراء المسقوفة بالصفيح ، فيصف شوارع مكة الضيقة الملتوية والأسواق والبيوت التي تبرزُ في واجهاتها الرواشين الخشبية بشكل بديع .. وكيف همّ بالدخول إلى المسجد الحرام من باب السلام والطواف والسعي مصوراً مشاهداته فيها بشيء من الدهشة تصويراً دقيقاً ، فيصف حال المسعى الذي يتقاطع مع أسواق مكة ومقاهيها وأصوات التجار المنادين على بضائعهم ، وكيف أنهى سعيه بإرهاق شديد ملقياً جسده على كرسي الحلاق ليتحلّل ، ويذكر أن لدى والده بيتاً في مكة مقفلاً خالياً ينزل فيه بالحج ، وقد لقيه بعد نهاية سعيه وذهب معه إلى بيتهم ومن معه من ضيوفه الحجاج .
وما هي إلا ساعات وتبدأ رحلةُ الحج إلى عرَفة عبر سيارةٍ تمّ استئجارها ، ومن ثمّ التوجه إلى منى واصفاً ما فيها من بيوت وحوانيت إضافةً إلى خيمة والده المنصوبة هناك والتي دارت فيها الكثير من مناقشات الحجاج الضيوف ، لينتقل إلى وصف نصْب الخيام بعرفة ، ثم الوقوف على جبل الرحمة ، ثم النفرة إلى مزدلفة ، ثم رمي الجمرات بمنى ، حتى الانتقال إلى مكان الأضاحي والعودة إلى مكة .
ثم ينتقل مسار الرحلة إلى المدينة المنورة التي سافر إليها بالطائرة ؛ ليلتقي فيها لحظة وصوله بصديقه “مولانا ضياء الدين” ، وقد بهرته بساتين المدينة المسورة والبيوت القديمة ، وامتلأ قلبه روحانيةً عند زيارته للقبر الشريف ، إضافةً إلى زياراته لمسجد قباء ، ومسجد القبلتين ، والبقيع .. ليُنهي رحلته بالعودة إلى الظهران ومن ثم إلى نيويورك .
لقد كانتْ فاتحةُ صور الكتاب صورةً ملونة كبيرة وشهيرة للمسجد الحرام بمطافه المفروش بالرخام المحاط بالمقامات الأربعة والحصاوي بينها المشّايات المبلطة ، والأروقة المحيطة التي امتدّتْ منها أشرعةٌ تظلل العُبّاد من لفَحَات الشمس ، إلى جانب أشرطة بيضاء امتدّتْ على الحَصَاوي ؛ يكشفُ لنا الحاجُ عبد الغفور أنها أحَاريمُ الحجاج يتم تنشيفها بتلك الطريقة ! وتظهر أيضاً في خلفية المسجد الحرام البيوت المكية برواشينها وما خلفها من جبل أبي قبيس ، وفي طرف الصورة الشمالي الغربي يطل جزء من جبل النور الذي تعبّد فيه الحبيبُ صلى الله عليه وسلم بغارِ حراء .
وللحقيقة كل صورة في الكتاب تحكي تاريخاً لمكة ومسجدها الحرام جاوَزَ نصفَ قرنٍ من الزمان تغيّرتْ فيه مكة وتغيّرتْ معالمُ وعمارةُ مسجدها الحرام ، ولعلّ أهم ما في الصور ما يتعلق بالمَشَاعِر المقدّسة التي وَثّق فيها الحاجُ عبد الغفور ما يحدث في مناسكِ الحَج عبر مَراحلهِ المتعدّدة من الوُقوف بعرفة إلى نصْب الخِيام للمَبيتِ بمِنى والمُزدلفة ، ومن رمي الجَمَرات إلى ذبْح الأضاحِي ؛ وكانتْ الصور الفوتوغرافية مُعبّرةً جداً عن حالِ الحج والحُجاج في منى ، وأشكالِ البيعِ والشراء وأمورٍ أخرى كثيرة ومثيرة تتكشّف للباحثين والمؤرخين المهتمّين ؛ فرُبّ صُورةٍ أغنتْ عن كثير من الكلام .
[COLOR=#FF1700]* مِن آخِرِ السّطْر :[/COLOR]يقولُ الحاجُ عبد الغفور بكل فَخْر :”لقد وضعتُ نصب عينيّ مُهمة قلّما سبقها مَثيلٌ في تاريخ الإسلام الطويل ، تلك المُهّة هي التقاطُ سِجِلٍ كاملٍ من الصورِ المُلونة لمشاعِرِ الإسلام المقدّسة ، كان هدفي بسيطاً وواضحاً وهو إثراءُ الغرْب بمَعْرفةٍ أكبر عن الإسلام” ! فهل يدركُ فوتوغرافيّونا من الشباب وغيرِهم أهميةَ تلك الكامِيرا التي يُمْسِكُون بزمَامِها ليلَ نهارَ في نقلِ صُورة الإسلامِ الصّحيحِ والدّعوةِ إلى اللهِ قبلَ كلّ شيء ؟![/JUSTIFY] [email]Shuaib2002@gmail.com[/email]
——————————————-
[COLOR=#FF0F00]مقالات سابقة[/COLOR] [url]https://www.makkahnews.sa/articles.php?action=listarticles&id=46[/url]#في_ضيافة_الكتاب