المقالات

الإسكان… حين تتعدد الممرات وتغيب المنظومة

د. عبدالقادر سامي حنبظاظة

رغم ما تحقق من إنجازات لافتة في ملف الإسكان، ورغم ما شهدناه من برامج تمويل، ومبادرات تطوير أراضٍ، وحلول للتمليك، فإن رحلة المواطن نحو بيته لا تزال تمر عبر ممرات متفرقة، لا يربطها خيط واحد ولا لوحة قيادة موحّدة. يبدأ الأمر من “سكني” لاختيار المنتج، ثم ينتقل إلى البنك لبحث القدرة التمويلية، ثم إلى المطوّر أو المقاول للتوقيع، مرورًا بالجهات التنظيمية لاعتماد التصاميم والتراخيص، وانتهاءً بالمتابعة حتى التسليم. كل جهة تعمل بجد، لكن كل جهة تتحرك وفق أجندة مختلفة، والمحصلة أن المواطن يواجه سلسلة من الأبواب، كل باب له شروطه وسرعته وأولوياته.

الخيارات التمويلية والعقارية تمنح تنوعًا، لكنها لا تفرض معايير زمنية أو جودة موحّدة. النتيجة أن الموارد الضخمة التي تضخ في القطاع لا تتحول دائمًا إلى أثر ملموس على الأسعار أو زمن التسليم أو جودة التنفيذ.

غياب الربط المؤسسي بين وزارة الإسكان، وصندوق التنمية العقارية، ووزارة الصناعة، والهيئة العامة للعقار، والبنوك، يعني أن كل طرف يسعى لتحقيق هدفه، لكن الهدف الوطني الجامع – مسكن كريم بجودة عالية وسعر عادل – لا يُدار كمنظومة واحدة. وهذا ما يجعل تجربة المواطن أشبه بفسيفساء من الجهود المتناثرة، لا لوحة مكتملة.

وفي العالم، تقدّم سنغافورة مثالًا حيًا على ما يمكن أن تصنعه المنظومة الواحدة حين تجتمع في يد جهة موحدة. منذ ستينيات القرن الماضي، تولّى مجلس الإسكان والتنمية مسؤولية التخطيط والبناء والدعم، فأنتج أكثر من مليون وحدة سكنية تؤوي 80% من السكان، ورفع نسبة التملك إلى 90%، مع فترة انتظار لا تتجاوز أربع سنوات. ربطت سنغافورة الدعم بالشرائح المستهدفة، ودمجت الخدمات التعليمية والصحية والمواصلات في التخطيط العمراني ذاته، كما وضعت معايير جودة صارمة تُراجع كل خمس سنوات. النتيجة: سوق سكني منظم، تكلفة معقولة لا تتجاوز 23% من دخل الأسرة، ورضا شعبي يتجاوز 85%. هذه التجربة تذكّرنا بأن النجاح لا يأتي من تعدد المبادرات، بل من توحيد القرار، وضبط الإيقاع، وتوزيع الموارد ضمن منظومة متكاملة… وهي بالضبط الروح التي نحتاجها في “مَقام”.

هنا تبرز تجربة “ندلب” كدليل محلي على أن التكامل ممكن. “برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية” جمع وزارات الطاقة والصناعة والنقل والخدمات اللوجستية تحت حوكمة واحدة، بخطط ومؤشرات قياس واضحة، فتسارعت المشاريع وتحققت الأهداف الاستراتيجية. الإسكان بحاجة إلى التجربة نفسها، لكن بلمسة تخصه، عبر كيان وطني جامع أقترح أن يحمل اسم “مَقام” – المسكن، القيمة، الاستقرار، المستقبل.

“مَقام” ليس منصة جديدة، بل مجلس وطني يربط كل الجهات المعنية تحت خطة واحدة، بمؤشرات أداء علنية تُحدّث دوريًا: نسبة إنجاز المشاريع، متوسط زمن التسليم، الالتزام بكود البناء، أثر المبادرات على الأسعار، وعدد الوظائف المولدة في القطاع. بهذا الإطار، تتحول رحلة المواطن إلى مسار واحد شفاف من لحظة الطلب حتى استلام المفتاح، ويصبح كل ريال دعم أو كل أرض تُمنح أو كل ترخيص يُصدر مشروطًا بزيادة الكفاءة وخفض التكلفة وتحسين الجودة.

والأهم، أن الدعم لا يكون ماليًا مجردًا، بل مرتبطًا بالمقومات الوطنية. كل مشروع مدعوم يجب أن يُجهز بمكونات كهربائية وطنية، ومفروشات سعودية ذات جودة عالية، وجميع الاحتياجات السكنية المنتجة محليًا. بهذا الأسلوب، تدور الأموال داخل السوق المحلية، فيستفيد منها المصنع السعودي، والمورد الوطني، والحرفي المحلي، ويزداد الطلب على المنتجات الوطنية، فنخلق وظائف جديدة، ونرفع المحتوى المحلي، ونحافظ على القيمة المضافة داخل الاقتصاد.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يُشترط أن تكون هذه المنظومات ضمن تصنيف جودة وسعر واضح:
• كلاس أ: أعلى جودة وأفضل مواصفات، بسقف سعري مدروس للفئة المميزة.
• كلاس ب: جودة عالية بمواصفات قياسية وسعر متوسط يناسب الشريحة الأوسع.
• كلاس ج: مواصفات أساسية وسعر اقتصادي يلبي احتياجات الفئات ذات الدخل المحدود.

هذا التصنيف يمنح المواطن حرية الاختيار بين مستويات الجودة والسعر، ويضمن أن الدعم الحكومي يذهب لما يتوافق مع احتياجاته، ويدفع المصنعين والموردين والمطورين إلى تحسين الجودة وضبط الأسعار للحفاظ على تنافسيتهم.

ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أكد منذ 2017 أن الإسكان ثلاثة أنواع: مجاني، مدعوم من الصندوق، أو من الحكومة، وأثبتت قراراته الأخيرة في الرياض أن الحل السريع ممكن متى توحّدت الجهود: رفع الإيقاف عن أراضٍ واسعة، توفير أراضٍ مطورة بسقف سعري محدد، تعديل رسوم الأراضي البيضاء لزيادة المعروض، والتبرع بمليار ريال من ماله الخاص لمنصة “جود الإسكان” مع توجيه بالتسليم خلال عام. هذه القرارات تعكس أن الإرادة السياسية موجودة، لكن ما ينقص هو الإطار المؤسسي الذي يربط كل هذه الخيوط.

الخيوط مفككة، وكيان “مَقام” هو العقدة التي تربطها جميعًا في منظومة واحدة تحقق الهدف الوطني: سكن كريم بجودة أعلى، وقسط أعدل، وتسليم أسرع، وصناعة وطنية أقوى. وفي النهاية، الجواب ليس في السؤال… بل في القرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى