
أطلت شمس الصباح دون وهج، وانتشرت أشعتها تنير عتمة البيوت القديمة، هناك في منتصف الحي، مقبرة صغيرة، يدفن أهل الحي فيها أحبائهم، بنيت بيوت الطين في منأى عنها، ثم صارت تتوسع نحوها، حتى أصبح موقعها ضمن نطاق الحي، وفيها استقر كهل مهيب يحرسها ويحفر فيها دون ملل، قد أوجعته مصائب الزمان وفقدان المقربين، حتى استودع نفسه للسكن إلى جوارهم، يقضي يومه في حفر القبور ومواساة المكلومين الذين يزورون موتاهم، فقد الاهتمام بهندامه ونظافته ليصبح في عيون الأطفال مثل الأشباح، لم يكترث للصورة السائدة في عيونهم الصغيرة، ولم يجد لها بالاً..
ينهمك كل صباح في حفر قبر جديد، بينما يضع نصف ملابسه ويتسلل الغبار بين لحيته الكثيفة وشعره الثائر الملون بخصلات تتدرج من البياض إلى السواد..
كان أبناء الحي يعبرون الطريق الترابي الذي يشق منتصف المقبرة سعيًا لاختصار طرقهم، مع حرصه على منعهم والتأكيد على قداسة المكان، لا يمل ولا يرتدعون..
ذات يوم، مرت بالمقبرة أم وابنتها، يمتطيان حمارهما، وكان يعرف الطرق المختصرة لوجهة سيدته، فتجاوز باب المقبرة يلج وهو يخطو بثبات من يفعل الصواب، خفق قلب الأم من رؤية القبور والشواهد وتذكرت فقيدها وأب أبناءها، وتسللت من جفنها دمعة هاربة، لتحاول التمسك برباطة جأشها وتعلن بصوتها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين…
التقطت اذناه سلام أحدهم بينما يوشك على إنهاء الحفر، فبرز من القبر الذي يحفره مبتسمًا لمن يحفل به وبسلامته ليقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته…
نظرت الأم مصعوقة لهذا الخارج من قبره، وصرخت وابنتها معًا، وركضا تاركين الحمار يحدق في ذاك الغريب بهدوء..