المقالات

موهبة؛ الجهة المسؤولة عن اكتشاف ثروتنا الذهنية

تَـقدم المجتمعات يأتي من خلال الأفراد وليس المجتمعات.. فـالإبداع حالة فردية وموهبة شخصية، والمبدِعـون يسبقون عصرهم، ويحاولون تغيير مجتمعاتهم من خلال رؤيتهم الخاصة للمستقبل..
(المجتمع) كـتلة متماسكة تملك جذورًا راسخة يصعب تغييرها أو إعادة تركيبها من جديد، وهذه الحقيقة تفسر لماذا تبقى بعض المجتمعات في حالة تخـلف وثـبات على نفس الحال لقرون طويلة.. كما تفسر رفض الأفـراد في المجتمع للتغـييرات النوعية الجديدة ــ ولماذا يتخذ عامة الناس موقفًا متشككًا من الرواد والمبدعين وأصحاب الأفكار الخلاقة..
ولهذا السبب أعـتقد أن أول وأهم خطوة لتفعيل دور الإبداع في المجتمع، هـو أن يتقبل المجتمع نفسه وجود المبدعين وأصحاب المواهب الخلاقة فيه. أن لا يتخذ منهم فقط موقفًا مناوئًا أو متشككًا، بــل يسارع إلى تبنيهم وتشجيعهم والاستماع إلى أفكارهم الخلاقة..
الدول الأكثر تقدمًا، هي الدول التي أدركت هذه الحقيقة قـبل غيرها.. هي التي خصصت برامج لاكتشاف المواهب وجهات تؤهل الموهوبين لقيادة المجتمع ــ كي تُـسابق الزمن من خلالهم، بـدل أن يسابقـوا الزمن لوحدهم..
فـمن حسن الحظ أن الموهـوبين ليسوا حكرًا على مجتمع أو وطن بعينه. فالموهبة حالة طبيعية يمكنك العثور عليها بين أي عينة عشوائية من البشر.. في حال أخذت مثلًا (ألـف شخص) من أي مجتمع، وفي حال افترضنا أن 1% منهم فقط يصنفون تحت خانة الموهوبين والمتفوقين ذهنيًا، يعني أننا نملك 10,000 عبقري وموهوب بين كل مليون شخص من الشعب.. وهذا يعني أنه يعيش في السعودية (حاليًا) أكثر من 300,000 عبقري وموهوب ينتظرون الاكتشاف والرعاية ــ في حين يوجد في الهند والصين طلاب موهوبون يفوق مجموع الطلاب العاديين في أوروبا وأمريكا..
وهـذه الأرقام تؤكد أن (الموهبة) ثروة طبيعية، وهــبة ربانية، توجد بنسبة متساوية لدى كافة الشعوب.. الفرق الوحيد هـو تفاوت الدول في اكتشافها، والمجتمعات في الإيمان بأفكارها.. هناك دول لا تملك أي ثروات طبيعية (كــاليابان وتايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية)، ولكنها ركزت جهودها على ثروتها الـرماديـة من المواهب البشرية.. اهتمت بتطوير التعليم واكتشاف الموهوبين فحققت ريادة علمية وصناعية لم تحققها دول نامية تملك موارد طبيعية هائلة…
حين نتحدث عن عـمَّا يسمى (الدول المتقدمة)، نتجاهل أن تقدمها أتـى كنتيجة طبيعية لرعاية وتفوق المواهب فيها..
لا يمكنني استعراض كافة النماذج العالمية؛ ولكن خُذ كمثال روسيا التي حققت قفزاتها العلمية الحديثة ــ بعد الحرب العالمية الثانية ــ بفضل مدرسة نوفوسيبيرسك للعباقرة والموهوبين. فمن هذه المدرسة الاستثنائية تخرج عباقرة العلوم والهندسة والفضاء والأسلحة والتقنيات النووية الأمر الذي أتاح لروسيا الوقوف في وجه أمريكا وأوروبا الغربية زمن الحرب الباردة (بل وسبقت أمريكا في غزو الفضاء وإطلاق أول قمر اصطناعي وإنتاج الصواريخ العابرة للقارات)..
أما في الصين فهناك (المدرسة رقم 8) المخصصة للأطفال العباقرة والموهوبين ويقع مقرها في بكين.. يدرس فيها أطفال تفوق درجة ذكائهم الــ140 درجة، وتم اختيارهم اعتمادًا مواهبهم الاستثنائية.. لا تملك مناهج تقليدية (كونه يصعب ببساطة تأليف مناهج تناسب عقولهم الخارقة) وتعتمد على نظام تحصيلي مرن يعلم فيه كل طفل نفسه تحت إشراف معلمين متخصصين ــ يُعـدون بدورهم من نخبة المعلمين، ويحمل جميعهم درجات تفوق الماجستير..
أما في المكسيك فهناك مدرسة (أتينثيون آل تاليندو) التي تضم عباقرة لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، ويملك معظمهم شهادات جامعية في مختلف التخصصات العلمية.. بينهم فتاة تدعى دافـيني تتحدث أربع لغات وأصبحت طبيبة نفسية في سن الثالثة عشرة، ونالت درجة الماجستير في القانون والكيمياء في سن السادسة عشرةــ وبحسب مديرة المدرسة؛ يوجد في المكسيك مليون فــتاة مثلها لم يتم اكتشافهن حتى الآن…!
… ومـثل هذه المدارس (في روسيا والصين والمكسيك) مجرد نماذج لمؤسسات عالمية تـقع على عاتقها مهـمة اكتشاف الثروات الذهنية في مجتمعاتها ـــ وأدعوها شخصيًا الثروة الرمادية عطفًا على القشرة الرمادية في الدماغ المسؤولة عن التفكير والإبداع والابتكار..
… ومن حُسن الحظ أننا نملك في السعودية جهودًا مماثلة لاكتشاف الأطفال الموهوبين في شتى المجالات.. جهود حقيقية ترعاها مؤسسة وطنية غير ربحية نعرفها جميعنا باسم موهـبة (أو مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع).. تسعى لاكتشاف الموهوبين من الطلاب في مختلف المراحل، وتملك خطة وطنية لرعاية الموهبة والإبداع ودعـم الابتكار. تملك بـرامج كثيرة (يصعب حصرها فعلًا) من بينها الأولمبياد الوطني للإبداع، وبرنامج الالتحاق بأقـوى الجامعات العالمية.. البرنامج الأول تمخض عنه فوز طلابنا بالمراكز الأولى على 88 دولة شاركت في منافسات آيسف للعلوم والرياضيات (التي أقيمت في مايو الماضي في ولاية جورجيا الأمريكية). أما البرنامج الثاني ــ الابتعاث الخارجي ــ فــتم تنظيمه بالشراكة مع وزارة التعليم ونجـم عنه تواجـد أكثر من 1000 طالب موهوب في أفضل 50 جامعة مصنفه على مستوى العالم.
… وفي الإجمال؛ ترعى “موهـبة” أكثر من 54000 طالب وطالبة حققوا إنجازات كبيرة باسم السعودية على المستوى الدولي. حصلوا حتى الآن على أكثر من 400 ميدالية في المسابقات العلمية، وطوروا أكثر من 16.000 فكرة، وحصلوا على أكثر 15 براءة اختراع أصيل…
وليس أدل من اهتمام السعودية بهذا الجانب من استضافتها (في مطلع هذا الشهر) النسخة الثانية من المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع الذي شاركت فيه 30 دولة ونجم عنه إطلاق منصة إلكترونية (GTP) تجمع المواهب العالمية وتجعلهم بحالة تواصل دائم مع نظرائهم في السعودية. وخطوة كهذه تعـد نقله نوعية تحسب للسعودية، كون اكتشاف المواهب (الفردية) مجرد مرحلة أولى لإنشاء كيانات جماعية عملاقة تضم أفضل العقول في البلد ــ على نمط مدينة العلماء في روسيا (أوزنيك) ومعـهد (باستير) في فرنسا، ومؤسسة (ماكس بلانك) في ألمانيا، ومختبرات (لوس ألاموس) في أمريكا …
بقي أن أشير إلى أن نسبة الموهوبين، كما أنها شبه ثابتة في كافة المجتمعات، كذلك نسبة الأغبياء (ومتوسطي الذكاء) شـبه ثابتة في كافة المجتمعات..
وهذا يعني أن وجـود الأغبياء (ومتوسطي الذكاء) أمر طبيعي ولا يعـد مشكلة في أي مجتمع.. المشكلة الحقيقية هي أن يتم استثـناء الموهوبين، وتسليم قيادة المجتمع لمتوسطي الذكاء.. ناهيك عن الأغبياء فعلًا…
21 ديسمبر 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى