
يكتبه – محمد بربر
موارد طبيعية يستغلها فكر علمي متقدم لتحقيق إنجازات هائلة تدعم الاقتصاد القومي وتوفر الآلاف من فرص العمل من خلال استغلال القوى البشرية، هكذا أصبح الأمر في قرية القايات التابعة لمركز العدوة بمحافظة المنيا المصرية.
مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية تحتوي على كمية كبيرة من النخيل على مد البصر، يزرعه الأهالي للاستفادة من البلح وبيعه وتصديره في كثير من الأحيان، لكن دراسات أكاديمية جعلت من جريد نخيل البلح ثروة عظيمة بعدما ثبت أنه يمكن تحويله إلى أخشاب عبر ماكينات اخترعها قسم الإنتاج بجامعة عين شمس.
وعلى الرغم من أن قرى مركز العدوة معروفة ببيع التمر وتقليم النخيل، مثل قرى كفر مغربي والشيخ مسعود والقايات والمنشية، فضلا عن احتوائها على أغلى أنواع التمر، إلا أن الكثير من الأهالي يعملون في مهن تتعلق بمنتجات النخيل وتجد لها أسواق في المحافظة وخارجها، خصوصًا في شهري أكتوبر ونوفمبر، ويمكن من خلال الجريد عمل كراسي وطاولات وحقائب كبيرة كما أن الأسر الفقيرة في القرى تلجأ إلى جريد النخيل للاستفادة منها في عمل سقوف للبيوت.
الدكتور حامد الموصلي يعد من رواد هذه التجربة ليس على مستوى القرية وحدها، ولكن على مستوى الجمهورية، بداية من عمله البحثي إذ يعمل على دعم مؤسسات المجتمع المدني، وكانت جميع أبحاثه قائمة علي المناطق الفقيرة، ويحاول أن يستخرج من تلك المناطق أفضل ما بها من إمكانيات وثروات غير مستغلّة، لتوظيفها بشكل أفضل.
ووجد الموصلي أن مصر طبقا للإحصائيات العربية والدولية تعد ثالث أكبر مالك لثروة النخيل في الوطن العربي بعد المملكة العربية السعودية والإمارات، وأجرى عددًا من الأبحاث أظهرت أن الخصائص الفيزيقية لجريد النخل تتشابه إلى حد كبير مع خصائص الخشب، وبالتالي جريد النخل يصلح لأن يكون مصدرا رائعا لتصنيع الأخشاب، هذا بجانب الأبحاث الأخرى التي أوضحت أن أشجار النخل كله، وكون فريقًا بحثيًا من طلاب كلية الهندسة بجامعة عين شمس التي يعمل بها أستاذ غير متفرغ، للعمل على تحويل جريد النخل إلى أخشاب، معتمدًا على الشباب من جهة، ومزارعي قرية القايات من جهة أخرى، ودشن شركة لإقامة المشروع خصوصًا وأن تعداد سكان القرية كبير جدا، وهناك أياد عاملة كثيرة جدا، والقرية تابعة لمركز العدوة الذي يحتوي على حوالي 43 ألف شجرة نخيل.
وقالت علياء نور، من فريق “شباب جريد” البحثي، أن الهدف الأول الذي وضعه مؤسسة الشركة هو العمل على حل المشاكل بيئية والاجتماعية لأن المسئولية الاجتماعية حلت الكثير من المشاكل في أوروبا، وتابعت “بجانب أن عملية التصنيع وتحويل جريد النخل إلى ألواح خشبية، عملية هندسية معقدة تتطلب آلات معينة ومواد كيميائية مخصصة، وبالتالي نحن من نضع تصميمها ونصممها هنا في مصر، وهذا مثبت في الشهر العقاري ولدينا براءة اختراع بذلك”.
وأوضحت نور، في تصريحات صحفية، أن المشروع نجح في ضم العشرات من الأسر وأصبح الطلب على المنتجات متزايدًا وتحول الأمر من ورشتين صغيرتين إلى مصنع كبير به عمال وإدارات مختلفة، إلى جانب مسئولى تسويق.
وتابعت “أصبحنا نشارك في معارض محلية ودولية، فمنتجاتنا الآن عليها طلب من اليابان والسويد وسويسرا والسعودية وهذا كله بفضل مشروع تحويل جريد النخل إلى أخشاب، بدلا من قطع النخل والإضرار بالثروة القومية”.
من جانبه، اعتبر الدكتور حامد إبراهيم الموصلى، أن مشروعه يوفر 780 مليون جنيه سنويا، وأضاف أنه أطلق عليه سفير المخلوقات المهملة، لاهتمامه بتطوير صناعة جريد النخيل والاستفادة منها فى مصر، موضحا أن المشروع الذى نفذه حاليا هو مشروع الاستخدام الصناعى للمنتجات الثانوية للنخيل، لإنتاج بدائل الأخشاب ومنتجاتها من الأثاث العصرى وألواح الباركيه وتجاليد الحوائط ومنتجات الخرط العربى وصولا لألواح الـMDF، والمؤلفات الليفية البلاستيكية والأعلاف غير التقليدية والسماد العضوى، وصولا لحقائب السيدات من خوص النخيل.
ويقول الموصلي، إن قصته مع جريد النخيل تعود إلى 40 عامًا عندما شارك فى أول زيارة قامت بها جامعة مصرية للعريش بعد عودتها لمصر بعد 12 سنة من الاحتلال، ويروي التفاصيل “عملت على دراسة أسلوب الحياة التقليدية فى العريش وفهم أبعاد التميز التى يحوزها من أجل إعادة الثقة لهم بالمعنى الحضارى، ودراسة نمط المسكن العرايشى مع الاهتمام بملامح توافقه مع البيئة المحيطة واستخدامه الخامات المحلية ومنها استخدام جريد النخيل فى السقف، وقمنا فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس خلال الفترة من 1989 إلى 1995 بإجراء الاختبارات وفقاً للمواصفات القياسية العالمية على عينات جريد النخيل سلالات عدة من مختلفة وأثبتت النتائج بشكل حاسم وقاطع أن المواصفات الميكانيكية لجريد النخيل تلبى متطلبات المواصفات الأمريكية للأخشاب الصلدة والطرية، وهذا إنجاز يسجل لهندسة عين شمس وهو أنه لأول مرة فى التاريخ تم اكتشاف أن جريد النخيل يضاهى الأخشاب فى صفاته الميكانيكية، مما فتح الباب واسعاً لاستخدام جريد النخيل بديلاً للأخشاب المستوردة، حيث قمنا بتصنيع ألواح كونتر بانوه مع استخدام جريد النخيل كطبقة حشو بديلاً للأخشاب المستوردة الموسكى والبياض، ولقد أثبتت نتائج الاختبارات التى أجريت فى معهد ميونيخ لبحوث الأخشاب عام 1996، أن ألواح كونتر الجريد تلبى المواصفات الألمانية وتضاهى فى مواصفاتها الميكانيكية الألواح المصنوعة من الأخشاب”.
ويضيف “وجدت فى جريد النخيل وسيطاً رائعاً لتجسيد فكرة التنمية الذاتية للقرية المصرية والعربية من الناحية الحضارية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. فهو مورد موجود فى كل محافظات مصر، بإجمالى 12 مليون نخلة إناث. ويرتفع الاجمالي إلي 100 مليون نخلة فى كل الدول العربية. وللنخيل تاريخ طويل مع المصريين فقد استعان القدماء بجذوعه فى عمل سقوف منازلهم ومقابرهم المبنية بالطوب اللبن. كما صنعوا تيجان أعمدة معابدهم على شكل قمة النخلة بما تحمله من جريد نخيل”.
وأشار إلى أن مركز تنمية الصناعات الصغيرة بكلية الهندسة أسس وحدة تجريبية فى مدينة الخارجة لتصنيع ألواح الكونتر من جريد النخيل، بماكينات تم تصميمها وتصنيعها محليا، مكنت من تنفيذ خطة اليونيسيف لتوفير الأثاث لـ150 مدرسة في أسيوط وقنا وسوهاج.
وأنشأ الموصلي مصنعًا على أرض القرية لهذا الغرض، يضم ماكينة أنتجها وفريقه البحثي، وافتُتح المصنع قبل خمس سنوات، غير أن اللبنة الأساسية له وُضعت في عام 2010 عبر ورشة صغيرة.
وتمر عملية التصنيع بعدة خطوات لتحويل الجريد إلى خشب، وتبدأ بقطع جريد النخل على يد أصحاب مهنة تعرف في الريف المصري باسم ’النخَّال، ويلي ذلك إزالة الخوص، لتجهيز الجريد لعملية التجفيف، وتقطيعه إلى ثلاث قطع وتخزينه استعدادًا لعملية التسديب، ويتم في عملية التسديب تحويل كل قطعة من الثلاث إلى مجموعة من القطع الصغيرة بتقطيعها طوليًّا.
ثم تأتي مرحلة التجميع، وفيها يتم تجميع القطع الصغيرة معًا في شكل مستطيل من خلال عملية الكبس، ثم العمل على تهذيب شكل القطعة الخشبية بمساواة أبعادها للحصول على المقاسات المطلوبة بدقة، قبل تجميع عشرات القطع بعضها مع بعض لإنتاج لوح خشبي كبير مهيأ وجاهز للاستخدام في صناعة العديد من المنتجات.






