![](https://www.makkahnews.sa/wp-content/uploads/2024/12/aa60e377-3258-48e8-b7c5-bfd7816ec77f.jpeg)
.
(خاطرةٌ كتبتُها على متنٍ طائرةٍ شِبهِ خَاليةٍ ذات عودةٍ لي لجُدَّة).
.
شَنْطَةُ سَفَرٍ من ماركة *(دلسي)* تَفَنَّنْتُ بِاخْتِيَارِهَا قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ.
.
جَوَازٌ أَخْضَرُ بِلَوْنِ الْمَدَائِنِ الَّتِي زُرْتُ وَأَزُورُ، لَوَّنَتْ تَأْشِيرَاتُهَا صَفَحَاتِهِ الَّتِي تَكَادُ تَنْفَدُ.
.
عِطْرُ *(بُلْغَارِي)* الَّذِي أَهْدَتْنِيهِ شَقِيقَتِي الصُّغْرَى؛ عَكْسَ ذَوْقِهَا الرَّفِيعِ، وَلَا أَرُشُّ رَذَاذَهُ فِي قُمْصَانِي إِلَّا فِي السَّفَرِ.
.
قَلَمُ *(مُونْت بْلَان)* الَّذِي أَتَانِي هَدِيَّةً مِنْ مُحِبٍّ رَحَلَ إِلَى عَالَمِهِ قَبْلَ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ، وَتَرَكَ لِي هَذِهِ الذِّكْرَى الْأَجْمَلَ. مَا أَرْوَعَهُ ذَاكَ الصَّدِيقُ! وَلَهُ كُلُّ الْأَشْوَاقِ أَيْنَمَا كَان!
.
سَاعَةُ *(مُوزَرَاتِي)* مِنْ ابْنِي الْأَكْبَرِ أُسَامَةَ.. يَاااه مَا أَبَرَّهُ الْأُسَامَةُ هَذَا وَأَطْيَبَ قَلْبَهُ!
.
نَشَأَتْ أُلْفَةٌ عَمِيقَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ هاتِهِ الْخَمْسِ؛ لَكَأَنَّهَا ذَوَاتُ أَرْوَاحٍ وَلَيْسَتْ جَمَادَاتٍ؛ أَشْعُرُ أَنَّها تَبْتَسِمُ لِي وَتَغْمِزُ بِلُؤْمٍ أَحْيَانًا إِنْ سَرَحْتُ بِخَيَالِي بَعِيدًا بَعِيدًا لِعَروسِ الْمَصَائِفِ، حَيْثُ تَمْتَلِئُ ذَاكِرَتِي بِشُخُوصِ أَحِبَّةٍ. لَمَّا يَزَالُونَ بِالْقَلْبِ!
.
بِتْنَا – الْخَمْسَ الْآنِفَاتِ وَأَنَا – لاَ نُطِيقُ الِابْتِعَادَ عَنْ بَعْضِنَا؛ وَنَلْتَقِي جَمِيعًا كُلَّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، نَتَكَامَلُ فِي غُرْفَةِ مَكْتَبِي وَنفَلِتُ مِنْهَا لِصَالَةِ الْمَطَارِ، وَنَدْلِفُ – سَوِيَّةٌ وَبِحُبٍّ – بَابَةَ الْمدِينَةِ أَوِ الدَّوْلَةِ الَّتِي نَؤُمُّ.
.
بَاتَتْ رِفْقَتِي الْأَثِيرَةَ الَّتِي آنسُ إِلَيْهَا، أَبُوحُ وَأَهْمِسُ لَهَا لَكَأَنَّهَا رَفِيقَةٌ أَثِيرَةٌ تَسْمَعُ لِي.
.
وَتَرَانِي أَسْحَبُ شَنْطَتِي الْمُدَلَّلَةَ فِي صَالَاتِ الْمَطَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، تَتَهَادَى مُخْتَالَةً وَفَرِحَةً وَمُتَشَوِّقَةً لِاكْتِشَافِ الْقَلْبِ الْوَحِيدِ الَّذِي يَنْبِضُ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ الَّتِي نَطأُ.
.
هَلْ اسْتَعَضْتُ بِهَاتِهِ الْخَمْسِ، وَلُذْتُ لِلسَّفَرِ هُرُوبًا مِنْ ذِكْرَى مَا؟
.
هَلْ أُحَاوِلُ تَعْوِيضَ مَرْحَلَةٍ فَارِطَةٍ مِنْ حَيَاتِي، عَلَّ السَّفَرَ بِكُلِّ مُتْعَتِهِ وَجَمَالِهِ وَمُفَاجَآتِهِ، وَأخْذِهِ بِلُبِّي لِعَوَالِمَ مُدْهِشَةٍ وَبَعِيدَةٍ وَثَقَافاتٍ مُتَعَدَّةٍ وَوُجُوهٍ نَضِرَةٍ بِاسِمَةٍ؛ يُعَوِّضُنِي عَمَّنْ فَقدْتُ وَرَحَلَ؟!
.
ما أَعْرِفُهُ أَنِي أَعْشَقُ الِاجْتِمَاعَ مَعَ هَاتِهِ الْخَمْسِ، وَأَدْمَنْتُ سَمَاعَ صَوْتِ الْخَتْمِ الْمُمَيَّزِ لِضَابِطِ الْجَوَازَاتِ الضَّجِرِ مِنْ طابُورِ الْمُسَافِرِينَ الطَّوِيلِ أمَامهُ، وَهُوَ يَرِنُّ فِي أُذُنِي.
.
السَّفَرُ مُتْعَةٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا.
.
السَّفرُ لَوْذٌ لاَ يُضَاهَى، وَهُرُوبٌ إِلَى عَالَمٍ يُنْسِيكَ مَا يُوحِشُكَ وَيُؤْلِمُكَ.
.
السَّفْرُ افْتِتانٌ، وَتَجْدِيدُ نَفْسٍ، وَبَثُّ عزيمَةٍ، وَاطِّلَاعٌ عَلَى ثَقَافاتٍ، وَسُلُوٌّ نَاجِعٌ لِأَحِبَّةِ غَادَرُوكَ لِعَوَالِمِهِمْ الْبَعِيدَة. وَالسَّفَرُ، مُقَابِلَ أُولَئِكَ، اشْتِيَاقٌ لِأَحِبَّةٍ فِي عَالَمِكَ.
.
السَّفَرُ حُبٌّ وَعِشْقٌ وَإِدْمَانٌ.
.
كَمْ كَانَتْ حَكِيمَةً وَالِدَتِي إِذْ قَالَتْ لِي لَحْظَةَ َصَفَاءٍ:
*اغْنَمْ شَبَابَكَ – يا ابْني – وتَمَتَّعْ بِمُبَاحَاتِ الدُّنْيَا وَأَنْتَ بِصِحَتِكَ.*
*إِنْ تَقَدَّمْتَ بِالْعُمْرِ؛ لَنْ تَسْتَمْتِعَ أَبَدًا أَبَدًا.. وَلَوْ جُبْتَ الدُّنْيَا كُلَّهَا.*
.
اه، نَسِيتُ..
هُنَاكَ سَادِسٌ مَعَ هَاتِهِ الْخَمْسِ، مَنْ يَعْرِفُهُ فَلَهُ جَائِزَةُ الْمِلْيُونِ.