المقالات

ممالك الطوارق: الإسلام في قلب الصحراء الكبرى

«سلسلة: الممالك الإسلامية في أفريقيا – الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي»

تمهيد: حين تنبت الحضارة في الرمال

في قلب الصحراء الكبرى، حيث تمتد الكثبان الرملية بلا نهاية، نشأت ممالك إسلامية فريدة أسسها قوم الطوارق الذين استطاعوا أن يوائموا بين البداوة والتمدن، وبين الأصالة الأمازيغية والعقيدة الإسلامية، في نموذج حضاري قل نظيره.

ويأتي هذا المقال ضمن سلسلة “الممالك الإسلامية في أفريقيا: الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي”، التي تهدف إلى إعادة الاعتبار للتاريخ الإسلامي في القارة السمراء، واستجلاء دور المسلمين الأفارقة في بناء الحضارة والعلوم والثقافة.

أولًا: النشأة والسياق الحضاري لممالك الطوارق

ظهرت ممالك الطوارق في القرن الخامس عشر الميلادي تقريبًا، مستفيدة من تراجع سلطات الدول الإسلامية الكبرى كالمرابطين والموحدين، ومن الفراغ السياسي الذي تركه انهيار مملكة غاوة (غاو).

جاءت نشأة هذه الممالك كردّ على الحاجة إلى تنظيم اجتماعي يحفظ الهوية الإسلامية، وينظّم التجارة الصحراوية، ويضبط العلاقات بين القبائل.

ساهم انتشار الإسلام، خاصة عبر الطرق الصوفية كالقادرية والتيجانية، في إرساء بنية روحية وثقافية قوية. كما لعب الموقع الجغرافي دورًا محوريًا؛ فقد شكّلت الصحراء الكبرى ممرًا حيويًا للقوافل بين شمال أفريقيا وغربها، ووفّرت موارد كافية لبناء نفوذ اقتصادي.

ثانيًا: التأسيس والمؤسسون الأوائل

لم يكن تأسيس ممالك الطوارق نتيجة غزو خارجي أو انقلاب داخلي، بل جاء كتطور طبيعي للتحالفات القبلية، خاصة في مناطق الهقار، وآير، وتامنراست، وتمبكتو.

من أبرز المؤسسين الأوائل:

الشيخ أنغونا بن تين خماس، الذي أسس كيانًا سياسيًا في شمال النيجر، ونشر التعليم الإسلامي بين قبائل “كل تاغاراست”.
الشيخ أغ أتينان، الذي أقام نظام حكم تشاركي قائم على الشورى بين القبائل، ودعا إلى العدالة بين فروع الطوارق المختلفة.

ثالثًا: الملكة تينهينان – سيدة الرمال وأمّ الطوارق

تُعدّ الملكة تينهينان إحدى أقدم الشخصيات النسائية التاريخية في أفريقيا، وقد حملت على عاتقها مسؤولية ترسيخ الاستقرار في بيئة قاسية، خلال القرن الرابع أو الخامس الميلادي.

ينسب الطوارق أصولهم إليها، ويُطلقون عليها لقب “أمّ الطوارق”، ويرون فيها رمزًا للقوة والحكمة والاستقلال.

أصولها والهجرة التاريخية

وفقًا للتقاليد الشفوية، قدمت تينهينان من منطقة تافيلالت (جنوب المغرب) مع عدد من النسوة من قبيلة “أيت إدجي”، واستقرّت في منطقة أبالسة قرب تمنراست جنوب الجزائر.

تمكنت من توحيد عدد من القبائل تحت قيادتها، وأسست أول شكل سياسي للطوارق في الهقار، بمزيج من القيم الأمازيغية والنظام الاجتماعي الذي يمكّن المرأة من القيادة والمِلكية والنسب.

ضريحها واكتشافه

في عام 1925، اكتُشف ضريحها في منطقة “أبالسة”، ويضم بقايا امرأة دُفنت في موكب جنائزي مهيب مع مجوهرات وأوانٍ رومانية وكتابات بالحروف “التيفيناغية”.

وقد اعتُبر هذا الاكتشاف من أعظم الأدلة الأثرية على وجود مملكة نسائية ذات طابع سياسي وثقافي قبل الإسلام.

رمزيتها الحضارية

تمثّل تينهينان اليوم في الوعي الطارقي والأفريقي عامةً نموذجًا للمرأة القائدة، العاقلة، والمحنّكة، وتُستدعى سيرتها في الأدب الشفهي، والملاحم الشعرية، والمهرجانات الثقافية، وترمز إلى التجذّر الأمازيغي الإسلامي في أعماق الصحراء.

رابعًا: أبرز ملوك الطوارق وزعمائهم

إلى جانب تينهينان، لمع في تاريخ الطوارق عدد من القادة والزعماء، منهم:

الحاج محمد أغ أسيلاك (ت. 1820): من زعماء “كل أضغاغ”، أسس مدارس لتحفيظ القرآن، ونسّق مع شيوخ تمبكتو لنشر الفقه المالكي.
الشيخ أغ أكلي (ت. 1850): فقيه وقائد مقاومة ضد الفرنسيين، عرف بدوره في حماية القوافل الدينية والتجارية.
أغ محمد الأنقري: قاد انتفاضة شهيرة ضد الاستعمار الفرنسي عام 1916، ونجح في توحيد فصائل الطوارق المتنازعة.
الشيخة إنالاوان: زعيمة نسائية في تمبكتو، أشرفت على الأوقاف النسائية ودور تعليم الفتيات في القرن الثامن عشر.

خامسًا: الرقعة الجغرافية والامتداد السياسي

امتدت ممالك الطوارق في فضاء شاسع يشمل:

الجزائر: جبال الهقار وتمنراست.
مالي: شمال تمبكتو، كيدال، وغاو.
النيجر: أغاديز، تاهوا، وجبال آير.
ليبيا وتشاد وبوركينا فاسو: بوصفها امتدادًا تجاريًا وروحيًا.

وقد جعلهم هذا الامتداد يتحكمون في عقد التجارة الصحراوية بين المغرب ونيجيريا.

سادسًا: الإنجازات الحضارية

من أهم ما أنجزته ممالك الطوارق:

نشر الإسلام في المناطق الصحراوية والنائية، من خلال حلقات العلماء والمرابطين.
المحافظة على اللغة الأمازيغية تماشق بالحرف التيفيناغي.
نظام اجتماعي متوازن يمنح المرأة مكانة مركزية في الإدارة والملكية.
دبلوماسية القوافل: إذ كان زعماؤهم يوفدون ممثلين إلى مراكش وفاس والقاهرة.
تشجيع التعليم الديني مع استخدام الخيمة المتنقلة كمدرسة وكتاب.

سابعًا: الإخفاقات والسلبيات

رغم ذلك، واجهت هذه الممالك عدّة تحديات، أبرزها:

القبلية والتشرذم، ما أعاق بناء دولة موحدة.
غياب مركزية السلطة لصالح حكم شيوخ القبائل.
الاعتماد على التجارة الخارجية دون تطوير زراعي أو عمراني.
ضعف الحماية ضد الاستعمار الأوروبي بسبب انقسام الزعامات.

ثامنًا: أسباب الزوال

زالت ممالك الطوارق تدريجيًا بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين نتيجة:

الاحتلال الفرنسي والبريطاني للمنطقة وتفكيك البنى التقليدية.
انهيار طرق القوافل بعد فتح الطرق الحديثة والموانئ الساحلية.
تجزئة العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة العثمانية.
انقسام الطوارق إلى دول متفرقة في النيجر ومالي والجزائر وليبيا.

تاسعًا: شهادات المؤرخين الأفارقة

يقول المؤرخ المالي أحمد بابا كانتي:
“إن الطوارق حافظوا على جذور الإسلام في قلب الصحراء، حين تخلى عنه آخرون”.
ويضيف السنغالي عمر بن ديا:
“كانت تمبكتو تتغذى من علم الطوارق، كما كانت القوافل تتغذى من ملحهم وذهبهم”.

عاشرًا: المستشرقون ومراكز الدراسات

كتب المستشرق الألماني هاينريش بارث:
“في قلب الرمال، وجدت رجالا من الطوارق يحفظون القرآن أكثر مما يحفظون الطريق”.
أما الباحث الفرنسي رينيه باسكيه فقال:
“لدى الطوارق، الدين والكرامة صنوان… والإسلام ليس قشرة بل جوهر”.

وتعمل اليوم جامعات مثل جامعة نيامي ومركز دراسات الصحراء بالجزائر وجامعة تمبكتو الإسلامية على توثيق هذا التراث المهم.

الحادي عشر: الطوارق في الذاكرة الأفريقية

رغم التقسيم الجغرافي، ما يزال تراث الطوارق حيًا في:

الأدب الشفهي والملاحم.
اللباس (اللثام الأزرق) الذي أصبح رمزًا ثقافيًا.
مهرجانات ثقافية وموسيقية في النيجر ومالي لإحياء تراثهم.
كتاتيب قرآنية تقليدية تعتمد نظام التعليم المتنقل.

الثاني عشر: دروس للشباب الأفريقي من ممالك الطوارق

تاريخ الطوارق ليس ماضٍ يروى فحسب، بل هو منجم دروس، منها:

الاعتزاز بالهوية الإسلامية والأفريقية في آنٍ واحد دون تعارض.
احترام المرأة وتمكينها من الريادة كما فعلت الملكة تينهينان.
الاعتماد على التعليم الديني واللغة الأم كركيزة للاستقلال الحضاري.
الصمود في وجه الاستعمار دون التفريط في القيم.
القدرة على التكيّف والتأقلم في أقسى البيئات، مع الحفاظ على التقاليد.

خاتمة: لماذا نكتب عن الطوارق اليوم؟

إن إعادة قراءة تاريخ ممالك الطوارق في ضوء الهوية الإسلامية والواقع الإفريقي ليست استعادة لماضٍ غابر، بل تأكيد على أن الإسلام ليس غريبًا عن أفريقيا، وأن هناك نماذج حضارية أصيلة قادرة على الإلهام والبناء في الحاضر.

فالطوارق، وهم قوم سكنوا قلب الصحراء الكبرى، قدّموا نموذجًا رائعًا للتوازن بين الإيمان والكرامة، وبين الرحل والبناء، وبين الأصالة والمرونة.

وفي عالم تتصارع فيه الهويات، تمثّل ممالك الطوارق ذاكرة حية تُنبّهنا إلى أن الإنسان المسلم في أفريقيا لم يكن تابعًا، بل كان رائدًا ومبدعًا.

المراجع والهوامش

Barth, Heinrich. Travels and Discoveries in North and Central Africa, London, 1857.
René Basset. Études sur les Touaregs du Sud, Paris, 1900.
أحمد بابا كانتي، “الطوارق والإسلام”، جامعة باماكو.
عمر بن ديا، “مدارس تمبكتو ودور الطوارق”، جامعة دكار.
تقارير اليونسكو، 2022، حول التراث الثقافي للطوارق.
أرشيف مركز دراسات الصحراء، الجزائر.
بحوث مركز دراسات الساحل وغرب أفريقيا، داكار.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى