المقالات

مصطفى الدباغ .. المجاور المبادر

رجل مكي مديني معروف، عُرف بحمام الحرم المكي الشريف، وهو لقب يطلقه المكيون لكل من جاور البيت الحرام وعُرف بكثرة مكثه، أو طول بقائه، وشدة ملازمته له، اشتهر الدباغ بتوزيع الأكياس على الزائرين والمصلين لوضع الأحذية بها صيانةً وكرامةً لحرم الله من الأوساخ الملتصقة بها، وهو -فيما أعلم- من كان سببًا بعد ذلك في اعتماد فكرة أكياس الأحذية من الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والتي كان عضوًا بمجلس الروّاد بها، يعرفه عامة أهل مكة المكرمة من أهل الطواف بالكعبة المشرفة، وأهل الصلاة بالصف الأول، ومن هنا كانت له صحبة ومعرفة بسيدي الوالد -شافاه الله وعافاه- تمثّلت في سنوات من الإخاء والصفاء بأرض الحرم المكي الشريف؛ أرض الطهر والنقاء..
أمضى الدباغ عمره الأول بخدمة أهل طيبة الطيبة، ووصل لرتبة عميد بالشرطة وتقاعد عليها، وسمت همته بعد ذلك وتطلع إلى بيت الله وخدمة قاصديه، فانتقل إلى الجوار بمكة المكرمة وأكرم به من جوار، ففرّغ وقته وبذل جهده واستفرغ وسعه لخدمة الطائفين والعاكفين والركّع السجود، فكان قريبًا منهم بجميل خلقه وبما حباه الله من محبة وتفانٍ، وبما كان يمتلكه من موهبة ومقدرة ومعرفة، خاصة أنه كان متعدد الثقافات، مجيدًا لعدة لغات غير العربية كالأوردية والإنجليزية والفرنسية، مما ساعده كثيرًا للاقتراب من ضيوف الرحمن وخدمتهم..
ومما يذكر فيشكر للدباغ رحمه الله وغفر له وتقبّل منا ومنه تنوّعه في تقديم معونته لضيوف الرحمن، فما كان يقتصر على خدمة بعينها، وإن كنا نراه أكثر يومه بصحن المطاف وخدمة الطائفين بتوزيع التمر وماء زمزم والمناديل وطبعًا (الأكياس) التي اشتهر بتوزيعها رحمه الله، إلا أنه كان يضرب بأسهم المشاركة في تسهيل مهمة، وإرشاد تائه، وتوضيح مسألة، ومساعدة مسكين، وإعانة فقير، وتوجيه نصيحة.. إلخ، بالحرم الشريف والمشاعر المقدسة..
ولما أجبرت جائحة كورونا الناس على التباعد والاحتياطات اللازمة كان الدباغ يضع كمامته وفوقها عمامته وغترته ويلفها حول حلقه ويتلثم بها، ويمارس أعماله ويكمل خدماته لقاصدي البيت العتيق دون خوف أو تردد وبلا ملل أو كلل..
ظل الشيخ الدباغ على حماسه وعطائه هذا ما حملته قدماه، وساعدته صحته وعافيته، حتى إذا ما تقدّمت به السن، وخارت قواه، وضعف جسمه، وجلس على كرسيه المتحرك، نادته همته العالية، وحبه لإيصال الخير للغير، فأخذ يصول ويجول محتسبًا متطوعًا من على كرسيه المتحرك.. كما قال الأول:
وإذا كانت النفوس كبارًا..
تعبت في مرادها الأجسام..
فأخذ يجوب بكرسيه الطرقات حول الحرم الشريف وبالمشاعر المقدسة باذلًا النصيحة والتوجيه والإرشاد بما يملك من قدرة وإمكانية..
وفي فعله هذا درس للمتخاذلين والمتكاسلين وهم بكامل قواهم ونشاطهم بأن الهمة طريق للقمة، وبأن قوة الروح فوق قوة البدن.. وقد كان من دعاء حبيبنا ونبينا ﷺ: “اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل”..
هذا ولعلي استطرد إلى منحى آخر من حياة الدباغ رحمه الله عند جواره لحرم الله، فقد كان محبًا للمجتمع المكي، وبخاصة ذاك الملتف التفاف الطائفين بكعبة رب العالمين فألِفَهم وألفوه، وأحبهم وأحبوه، مشاركًا لمجالسهم وملتقياتهم، وكم رأيته رحمه الله بـ”ملتقى الأحبة” بدار الشيخ عبدالله البخيت -شافاه الله وعافاه- قديمًا بداره بحي الشامية، وحديثا بداره العامرة بحي الشرائع، رأيته حاضرًا، مشاركًا، متواضعًا، سهلًا، مرتديًا ثوبًا وعليه السديري، يحتجز بوسطه حزم الأكياس الزرقاء والتي عُرف بها وكان يوزعها على أهل الحرم ليضعوا بها أحذيتهم كما أسلفنا، رحمه الله وغفر له..
ويوم ١٣ / رجب / ١٤٤٦، توفي الشيخ مصطفى بن مهدي بن عبدالعزيز الدباغ واستجاب لداعي الله، ولقي وجه ربه ومولاه، تاركًا لنا ذكراه الحميدة، وسيرته العاطرة..
أسأل الله تعالى أن يجزيه عن ما قدّم وبذل خير الجزاء وأوفاه..
وتعزيتنا لأبنائه وبناته وأهل بيته ومحبيه..
وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أبو عبدالعزيز- مكة المكرمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى