حين نكتب عن مكة، سيدة المدائن، يكون للحديث عنها سَمْتٌ خاص، تُجلِّله قدسية المكان المُعطَّر بروحانية الزمان.
فما تكتنزه هذه المدينة العريقة يجعلها كتابًا مفتوحًا من الأحداث المسترسلة التي تحكي التاريخ، وتروي حديث المكان وثقافته النابضة بمعارف قاطنيه وقِيَمهم وأخلاقهم، وإبداعهم في رسم الجمال، بدءًا برفع قواعد البيت ونزول الرحمات التي جعلت منها بلدًا آمنًا تُجبى إليه الثمرات، وليس انتهاءً بنور الإسلام الذي أضاء الكون كله بالبهاء والعطاء.
تركت العَنان لقلمي ليحلّق في آفاق مكة، فوجدتني أطوف به حول مكة التراث والجغرافيا والتاريخ، فيرسم بمداده ما سكن الجوانح من ثقافة تجذّرت في أفياء هذه المدينة الطاهرة. فهنا دُحَل مكة وحاراتها، وهناك عادات أهلها المضمّخة بجلالها وجمالها، وقد شكّلت منظومة تربوية من النُّبل والأخلاق التي انداحت على حياة قاطنيها حتى في ممارساتهم العملية وحِرَفهم اليدوية، ثم إبداعهم المعرفي الذي يؤصِّل للحضارات التي تحكي التاريخ.
تزدان الصورة أيضًا مع ذلك الموكب المهيب، موكب الحج، حيث بياض القلوب قبل الأجساد. هنا تقشعر الأبدان وترتجف الأيدي والأقدام، وتشرئب الأعناق كشموخ البنيان في ذلك المشهد… ولمَ لا؟ وهم في البيت الحرام، قبلة القلوب والأرواح، حيث أبواب السماء مفتوحة، تحدق فيها الأنظار، ترجو رحمة الله ورضوانه.
وجدتني في هذا الكتاب أفتّش في أضابير التاريخ، وأنتقي باقة من أدب الرحلات التي وصفت أدق المشاهد وروت أجل التفاصيل عن “أم القرى”، فعزفت ألحان الخلود بإيقاع روحاني.
هأنذا أكتب ذلك كله في فصول أربعة، لعلّها تنقل جزءًا من لوحات مكة الجمالية.
فدعونا نستمع إلى أصوات الأماكن، ونقرأ صفحات الزمان، ونطوف بين أروقة التاريخ، ونغذّ خُطانا فوق تضاريس مكة، محلّقين في سماء الأدب والفكر والإبداع.
فلعلّنا نقتسم بقدر الحب صور الجمال والجلال التي روت الكثير عن (هذا البلد).
خير البلاد وخير البقاع هي مكة المكرمة وخير ما يكتب عنها خيرة أهلها ومنهم أستاذنا معالي الدكتور بكري ربي يحفظه.