
أصدر الباحث المغربي محمد حكمون كتابًا جديدًا بعنوان “هكذا تكلم البليهي”، يستعرض فيه فكر ورؤى المفكر السعودي إبراهيم البليهي، الذي عُرف بطرحه العميق حول قضايا الوعي والتنوير والفكر النقدي.
وفي مقدمة الكتاب، أشار حكمون إلى أن القارئ سيجد بين صفحاته رحلة فكرية شاملة، تتناول موضوعات متعددة تتعلق بالدماغ والعقل البشري، واللغة، والعاطفة، والحب، إلى جانب استعراض محطات تاريخية وشخصيات مؤثرة مثل الإسكندر العظيم والحشاشين، كما يتناول الكتاب تحليلًا لأهم المعضلات الفكرية التي تواجه العالم العربي.
وعن الدافع وراء تأليف هذا الكتاب، أوضح حكمون أن اهتمامه بفكر البليهي كان عميقًا، حيث قرأ كل ما استطاع الوصول إليه من كتبه، حتى أتيحت له الفرصة للتعرف عليه عن قرب عبر المؤسسة الناشرة لأعماله، مشيرًا إلى أن أول مكالمة هاتفية بينهما كانت طويلة في الزمن، لكنها بدت قصيرة في الإحساس، حيث شعر حينها بانسجام فكري عميق مع البليهي، وكأن كلًّا منهما قد فهم الآخر بوضوح.
يُعد هذا الكتاب إضافة نوعية للمكتبة الفكرية العربية، حيث يسلط الضوء على تجربة البليهي الفكرية وتحليل رؤيته العميقة للتحولات الثقافية والاجتماعية، مما يجعله مرجعًا مهمًا للمهتمين بالفكر النقدي والتنوير في العالم العربي.
هذا الكتاب الذي بين يديك الآن يختلفُ عن كلِّ الكُتُبِ التي قرأتَها والتي ستقرؤها، فلا أبالغُ أبدًا إنْ قلتُ إنَّ كلَّ صفحةٍ من هذا الكتابِ يستحقُّ موضوعُها كتابًا كاملًا، وكلَّ جملةٍ أو فقرةٍ منه تستحقُّ وقفةً كبيرةً وتأمُّلًا مستحَقًّا. أمَّا قصتُه فقد بدأت منذ خمسِ سنواتٍ تقريبًا، عندما تعرَّفتُ على المفكِّرِ السعودي الكبيرِ إبراهيم البليهي عبرَ مقابلاتِه المتلفزة، ثمَّ تابعتُ ندواتِه في أكثرَ من دولةٍ عبرَ وسائطِ البث المتعدِّدة، قبل أن أتعرّف عليه ثانيةً من خلالِ كتبِه التأسيسيةِ الباهرة، وهي كتب غيرُ مسبوقة مِن مفكِّرٍ استثنائيٍ، فالعناوينُ التي أصدرَها البليهي والتي اعتمدتُ عليها بشكلٍ أساسي في هذا العمل كانت عناوينَ مثيرةً ومبهرة، مثل: “عبقرية الاهتمامِ التلقائي”، “الإنسانُ كائنٌ تلقائي”، “الريادةُ والاستجابة”، “حصونُ التخلُّف”، “الإبداع والاتِّباع”، و”حضارةٌ معاقة”… وكلُّها تندرجُ تحت عنوانٍ شاملٍ ومثير: “تأسيسُ علمِ الجهلِ لتحريرِ العقل”.
كان اهتمامي بفكرِ البليهي اهتمامًا كبيرًا، فقرأتُ كلَّ ما استطعتُ الحصولَ عليه من كتبِه، حتى أُتيحت لي فرصةُ التعرُّفِ إليه عن قُربٍ عبرَ المؤسَّسةِ الناشرةِ لكتبِه، وما زلتُ أذكرُ أوَّلَ مكالمةٍ هاتفيةٍ أجريتُها معه، وكانت مكالمةً مطوَّلةً جدًّا في الوقتِ وقصيرةً جدًّا في الشُّعور! وحصل بيننا انسجامٌ كبير، فشعرتُ أنَّ هذا الرَّجلَ العظيمَ قد فهمني، بلْ وفهمَ أنَّني فهمتُه ربَّما.
كنتُ قد تعرَّفتُ على أفكارِ البليهي ونظرياته غيرِ المسبوقةِ من خلالِ بعض مؤلفاته ومقابلاته، لكنْ أثناء حديثي معه عبر الهاتف؛ وجدتُ نفسي أمامَ إنسانٍ حقيقي، نادرِ النَّظيرِ في تواضُعه، ونُبله، وكرَمه، وما هي إلَّا دقائق بعد انتهاءِ مكالمتِنا؛ حتَّى طلبَ عبرَ الرَّسائلِ القصيرةِ عنواني في المغرب، ليُرسلَ إليَّ أهمَّ كتبِه وأحدثَها، وبالفعل، توصَّلتُ بها بعدَ مُدَّةٍ قصيرة، وكانت من أعظمِ الهدايا التي تلقَّيتُها، فعكفتُ على قراءتِها مُجدَّدًا، ثمَّ بدأتُ بالتَّدوينِ حولَ ما كان يستوقفني من أفكار، وإذ بي أجدُ نفسي قد كتبتُ مئاتِ الصَّفحات، بعد ذلك بدأتُ أرتِّبُ ما اقتبستُه من النصوص ترتيبًا مناسبًا، مستمتعا بذلك ومنبهرا بالمحتوى والأسلوب، وشعرتُ أنَّ ما يطرحه البليهي من أفكار، وما يعالجه من إشكالاتٍ ظلَّت عصيَّةً على التَّفكيك – يستحقُّ أن يُدوَّنَ ويُرتَّبَ – فكأنَّني وجدتُ وصفةَ الخلاص، وشعرتُ بأنَّ العالمَ كلَّه يحتاجُ إلى هذا الرَّجل، وأنَّ أفكارَه تستحقُّ أن تكون ضمنَ مناهجِ المدارسِ بمختلفِ مستوياتِها.
نحن أمامَ رجلٍ خارقٍ توصَّلَ إلى نظرياتٍ لم يسبقهُ إليها أحد، مثل: “الإنسانُ كائنٌ تلقائي” و”العقلُ يحتلُّه الأسبقُ إليه” و”الريادةُ والاستجابة” و”التعلُّمُ الاضطراري مُضادٌّ لطبيعةِ الإنسانِ التلقائية”… كما ابتكرَ البليهي عددًا كبيرًا من المفاهيم، كلُّ واحدٍ منها يستحقُّ أن تُجرى حوله نقاشاتٌ ودراساتٌ وحواراتٌ وبحوث، ولو ظهرتْ نظرياتُه وأفكارُه في الغرب لأحدثتْ ضجَّةً كبيرةً، لكنْ يبدو أنَّ الأُممَ لا تتوقَّعُ وجودَ فكرٍ مُشرقٍ لدى العرب، وأنَّ لدينا مفكِّرًا استثنائيا ستتحسَّرُ البشريةُ كثيرًا على عدمِ الانتباهِ إليه في الوقتِ المناسب، وعدمِ التعاطي مع أفكاره بالعمق المطلوب والاستنارة برؤاه، إذ أمضى الرجل كل عمره متعمقا في مختلف المعارف الإنسانية وانتهى بتأسيس نظريات حاسمة، وإنتاج العديد من المفاهيم الفلسفية، التي يصلحُ كلُّ واحدٍ منها أن يكونَ عنوانًا ومدارًا لدراساتٍ واسعةٍ وأبحاثٍ متنوِّعة.
كان إعجابي الشديد بفكر إبراهيم البليهي حافزًا قويًّا يدفعني إلى لقائه وجهًا لوجه، وكانت هذه الرغبة حاضرة عندي ومسيطرة على ذهني بشكل مستمر، ورغم أنه رأى أن التواصل عبر الهاتف يكفي، وأن التكنولوجيا قد سهَّلت سُبُلَ الاتصال وقرَّبت المسافات، إلا أن فضولي تجاه شخصتيه وتعطُّشي لمناقشته جعلني أفاجئه بالسفر إلى الرياض في أواخر سنة 2024؛ فسافرت إلى المملكة العربية السعودية وزرت الأستاذ البليهي في بيته، وكانت دهشتي كبيرة! وجدتُ الرجل يعيش بين الكتب، فلا يوجد ركن في منزله إلا وقد امتلأ بها، وما زلتُ أذكرُ كيف أنَّني توقَّفتُ أمامَ جناحٍ ضخمٍ يضمُّ كل الكتب التي تتحدَّثُ عن المرأة، وتعجَّبتُ لضخامتِه وتنوُّعِه، في الحقيقة كنتُ أحاولُ أن أستوعبَ المجالاتِ اللَّامتناهية التي يهتمُّ بها هذا الرَّجل، قبل أن يفاجئني مازحًا: “أراكَ توقَّفتَ كثيرًا عندَ المرأة!” فقلتُ له مُرتبكًا: “يا إلهي! إنَّني أحاولُ أن أستوعبَ فقط”.
واصلتُ جولتي في مكتبته، فكانت دهشتي تتضاعف! في الواقع وجدت الرجل وأسرته يعيشون في بيت يضم نحو خمسين ألف كتاب في مختلف المعارف والعلوم والفنون، فالأسرة لا تبدو وكأن عندها مكتبة خاصة، وإنما هي أسرة تسكن في مكتبة؛ فالكتب تحيط بهم من كل جانب، إنها تشغل كل الفراغات، حتى سلالم المنزل لم تسلم من رفوف الكتب. كما أن أسِرَّة النوم محاطة بدواليب الكتب! حينها أدركتُ أنَّ هذا الرَّجلَ عظيم في كل تفاصيله، وأنَّ مكتبتَه قد تكون من أندر المكتبات في العالمِ بسببِ تنوُّعِها وثرائِها.
ورغم اهتمام البليهي الشديد بالفلسفة وبالفكر المحض إلا أن مكتبته تضم كل الفنون، فقد فوجئت بوجود جناح من مكتبته يضم كل ما كُتِب عن الرياضة، وكبار الرياضيين مثل: ميسي وزيدان ومارادونا وغيرهم فهو مهتم بشكل شديد بتتبُّع المتميزين في كل المجالات. وحريص على معرفة أسباب التفوق عند البشر، لذا فإنه يتابع المتميزين مهما اختلفت مجالات تميزهم؛ ولذلك وجدت لديه مئات الكتب عن الفن التشكيلي والفن المعماري وفن المسرح والفن الموسيقي وفن الكاراكتير وكل الكتب التي تتناول حياة المبدعين في مختلف الفنون.
ورغم ضخامة مكتبته التي لا يكاد يغيب عنها كتاب، فإنه يحتفظ بملفات للفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين ولكل المتفوقين في مختلف المجالات ومن كل الدنيا؛ فتجد مثلا: ملف فولتير بجواره ملف تشرشل وملف كانط بجواره ملف هتلر وملف سقراط بجواره ملف بركليس وملف نيوتن بجواره ملف شكسبير وملف آينشتاين بجواره ملف بيكاسو… إن مكتبة البليهي تمثل مشهدًا مدهشًا في كثافتها وتنظيمها وتنوع محتواها، فشغفه بالمعرفة قد دفعه إلى تنظيم مكتبته بشكل عجيب ومدهش، وذلك من أجل أقصى حد مستطاع من الاستقصاء والإحاطة والتوثيق.
ليس هذا فقط، فقد وجدت في مكتبته غرفة خاصة، مملوءة بملفات تحوي صُورًا لما كتبه بخط يده أثناء مسؤولياته الإدارية المتعددة، فالرجل أمضى حياته الوظيفية مسؤولا عن البلديات في عدد من مناطق المملكة العربية السعودية، وكان مسؤولا على قمة الهرم الإدراي كما أنه كان عضوًا في مجلسِ الشورى، والذي قضى فيه ثلاثَ دوراتٍ متتالية، وهو الحدُّ الأقصى المسموحُ به ومع كل هذه المسؤوليات فإن الفكر كان شاغله الذي لا يبرح ذهنه.
إنَّ الحديثَ عن إبراهيم البليهي وحدَه يحتاجُ إلى آلافِ الصَّفحات! وأتمنى أن يُسعفه الوقت والجهد يومًا ما لكتابة سيرته الذاتية، ونقل تجربته للأجيال الحالية والقادمة، فخسارةٌ كبرى ألَّا نطَّلع عليها وننهل منها.
تكرَّرت زياراتي لبيت البليهي في الرياضِ خلال أيَّامٍ متتالية، فكانت جلساتنا مثيرة وممتعة ولا تُعَوَّض بأي تواصُلٍ عن بُعْدٍ، وكنَّا لا نشعر بالوقت يمضي، فناقشنا كلَّ شيءٍ، وتحدَّثنا عن أمورٍ كثيرة، كما اطَّلعَ على بعض ما كنتُ أُدوِّنه من أفكارِه، وهنا وُلِدَت فكرةُ هذا الكتاب؛ فبعد أن رأيتُ تقديرَ البليهي لما قمتُ به، رغبت في جعل هذه الاقتباسات متاحةً للجميع في كتاب شامل.
وها أنا ذا الآن أُقدِّم للقارئ هذه الاقتباسات التي انتقيتُها من كتبِه، ومن مئاتِ المقالاتِ التي كان ينشرُها في الصَّحافةِ السعوديةِ والعربية، وفي مقدِّمتها صحيفةُ “الرِّياض”. وقد جعلتُ كلَّ صفحة تبدأ باقتباسٍ، وحاولتُ جعلَ الاقتباساتِ مكمِّلةً لبعضِها البعض، بحيثُ يبدو كلُّ اقتباسٍ امتدادًا للآخر، كما سعيتُ أن أجعلَه كتابًا جامعًا، زاخرًا، ومُلخِّصًا لأكبرِ قدرٍ ممكنٍ من أفكارِ البليهي، فهذا الكتابُ مُصمَّمٌ للقراءةِ ولا شيء غير القراءة، كما أنَّ أسلوبَ البليهي السَّاحر سيشدُّك لتُكملَ الكتابَ في جلسةٍ واحدة.
هذا الكتابُ إذن يشملُ مُجملَ أفكارِ البليهي ومشروعَه العظيمَ الذي عنوَنه بـ: “تأسيسِ علمِ الجهلِ لتحريرِ العقلِ”، هذا المشروعُ الضخم الذي استهدفَ تحريرَ العقلِ البشريِ من الرُّكامِ الفظيعِ الذي تتوارثُه الأجيالُ تلقائيا في كلِّ المجتمعات.
هذا الكتابُ سيُقرِّبُكَ من نفسِكَ، وسيُساعدُكَ على فهمِ الآخرين، فهو يتكلم عن العلم والمعرفةِ، والتعليم والمهارات، والأخلاقِ والعادات، وكيف يكونُ تعاملُك مع ذاتِك في التعلُّمِ والعمل، وفي العلاقاتِ الزوجيةِ والأسريَّةِ والاجتماعية، وفي مشكلاتِ النَّومِ ومع أوقاتِ الفراغ، وكيف تواجه الاضطراباتِ النَّفسيةَ وكلَّ ما يعرِضُ لك في حياتِك؛ فنظريةُ التلقائيةِ التي كشف عنها البليهي تستهدفُ تنويرَ النَّاسِ بطبيعتِهم التلقائية، وكيف أنَّهم يتطبَّعونَ في طفولتِهم بمختلفِ الأنساقِ الثقافيةِ بفاعليةِ البيئةِ التي ينشؤونَ فيها، وعن النتائجِ العميقةِ والحاسمةِ التي تترتَّبُ على هذا التطبُّع، وبذلكَ يعرفونَ كيف يقرؤونَ التَّاريخ، وكيف يفهمونَ الواقع، وكيف يُقيِّمونَ أفكارَهم وتصوُّراتِهم، وكيف ينظرونَ إلى العالم، ويعلمونَ أنَّ الإنسانَ بما ينضافُ إليه، وليسَ بما يُولَدُ به، فيفهمونَ أسبابَ اختلافِ الأفراد، وأسبابَ تبايُنِ الأُمم، ويُدركونَ أنَّ الأصلَ هو الاختلافُ؛ سواءً بينَ الأُممِ بمختلفِ أنساقِها الثقافية، أو حتَّى بينَ الأفرادِ داخلَ كلِّ نَسَقٍ ثقافي.
إنَّ النظريات والأفكار التي توصَّل إليها البليهي، والتي ستجدُها على طبقٍ من ذهب في صفحات هذا الكتاب، تُجيب على الكثير من الإشكالات في نظريات المعرفة وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، كما أنَّها تُوضِّح السبب الرئيسي لعجز بعض المجتمعات عن الإفلات من قبضة التخلُّف؛ رغم كُلِّ ما تزخر به الدنيا من عوامل التقدُّم، كما ستجد في هذا الكتاب تفسيراتٍ فاتحة مُلهِمة لظواهر إنسانيةٍ مُعقَّدة؛ كانت خلال العصور وما زالت تُثير الكثير من الخلافات والجدل، وظهرت بشأنِها تفسيراتٌ مُتباينةٌ، ونظرياتٌ مُتضاربة.
هذا الكتابُ لن يغنيك عن الرجوعِ إلى المؤلَّفاتِ الكثيرةِ والملهمة التي أصدرها البليهي، بل هو، دعوةٌ مباشرةٌ للتعمُّقِ في فكرِ هذا الرجلِ الاستثنائي. وما أستطيع أن أعدكَ به، في الأخير، هو أنَّ محتوى هذا الكتاب سيجعلكَ شخصًا آخر، وسيُغيِّر نظرتكَ لنفسكَ وللعالم!