في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، لم يعد الإعدام يتم بالمقصلة، بل بضغطة زرّ “حظر” أو “إبلاغ”! مرحبًا بكم في عصر ثقافة الإلغاء، حيث يمكنك أن تصبح مكروهًا جماهيريًا خلال وجبة الغداء، ويُلغى وجودك الاجتماعي قبل أن تنهي قهوتك المسائية.
هل لديك رأي مختلف؟ رائع! جهّز نفسك لحملة شرسة من الهاشتاغات الغاضبة، فهنا، الاختلاف جريمة، والاعتذار لن ينقذك!
ثقافة الإلغاء هي باختصار الموت المدني الرقمي، حيث يتم تصنيفك كخائن، جاهل، عديم الأخلاق، أو حتى عدو للإنسانية… بسبب رأي قلته في لحظة سهو أو تغريدة قديمة دفنها الزمن، لكن نبشها حفّارو الإنترنت بحماس!
لا يهم إن كنت مخطئًا أم لا، المهم أن مجتمع ” وسائل التواصل ” قرر أنك “انتهيت”، وما عليك سوى الانسحاب في صمت، أو الاستعداد لهجوم إلكتروني يذكّرك بأن لديك رقمًا وطنيًا لكن بلا هوية اجتماعية بعد اليوم.!
ولعل وسائل التواصل… هي المحكمة بلا قاضٍ ؛ حيث إن “السوشيال ميديا” أعطت الجميع سلطة مطلقة بلا تدريب قانوني أو شهادة في العدالة. حيث خوّلت لهم أن يكونوا هم القاضي، والجلاد، ونيابة الرأي العام! ولا حاجة للمحاكم، فالقضية تحسم في التعليقات، والحكم ينفذ عبر “الترندات!أما المتهم؟ فلا يملك فرصة الدفاع، لأن أول قاعدة في ثقافة الإلغاء هي: “الصمت” اعتراف، و “الرد” استفزاز، و”الاعتذار ” اعتراف رسمي بالذنب”!
ومن هنا ربما يخلط الكثير بين المحاسبة والإعدام الرقمي؟!فهناك فرق شاسع بين محاسبة المخطئ وإعدامه رقميا بل اجتماعيًا، لكن للأسف، نحن لا نؤمن بالنصح ولا بالمغفرة، فقط نحب رؤية شخص يُسحل علنًا، فهذا يوفر لنا شعورًا زائفًا بالأخلاقية والتفوق. هل ارتكب شخص ما خطأ منذ 10 سنوات؟ نعيد تغريدته القديمة ونصرخ: “احرقوه!” هل اعتذر؟ نقول: “لا يكفي، تظاهر بالندم!” هل حذف حسابه؟ “هرب لأنه يعرف أنه مذنب!” النتيجة واحدة: وداعًا أيها المسكين، لن تعود إلى المجتمع مرة أخرى! ستُحاسب وتُعدم رقمياً .! حتى وإن كانت فكرتك رائدة ورأيك المطروح مثمراً ،ولكنه لا يتناسب مع أصحاب المصالح .!
ماهو ليس في الحسبان أن التأثير النفسي والاجتماعي لثقافة الإلغاء لا تقتل فقط حسابات التواصل، بل تخلق بيئة مليئة بالخوف والتوتر. الجميع يسير على قشر بيض، يفكر ألف مرة قبل كتابة أي شيء، لأن أي زلة بسيطة قد تتحول إلى كارثة علاقات عامة.!
أما نفسيًا، فالأمر أقرب إلى حكم بالسجن الانفرادي وسط حشد غاضب، حيث يتعرض من دخل قائمة الإلغاء لضغط نفسي رهيب قد يصل إلى العزلة أو حتى الاكتئاب. لكن لا بأس، المهم أننا شعرنا بأننا أفضل منهم، أليس كذلك؟
وللتخلص من تلك الأثار والنتائج الوخيمة علينا أن نعود إلى ثقافة الحوار ، لكنها تتطلب شيئًا لم نعد نجيده كثيرًا… التعقل! إذ يمكننا أن ننتقد دون أن نلغي، أن نناقش دون أن نشتم، وأن نترك مساحة للأشخاص للتعلم والتطور بدلًا من تحطيمهم. لكن دعونا نكون واقعيين، هل نحن مستعدون لذلك؟ أم أن إلغاء الآخرين أصبح هواية لا يمكننا العيش بدونها؟
وأخيرا إذا كنت تقرأ هذا المقال ولم تُلغِني بعد، فأنت شخص نادر يستحق الاحترام! لكن تذكر، في عالم ثقافة الإلغاء، أنت بطل اليوم، وضحية الغد… فاختر كلماتك بحذر، فقد تكون تغريدتك القادمة هي تذكرتك المجانية إلى المنفى الرقمي!
*همسة : أي رأي أو أقتراح يعارض رموز الدولة – حفظهم الله – أو أنظمتها خارج من طرحي في هذا الموضوع فكل رأي أو فكرة أو أقتراح في ذلك خط أحمر .