زاوية: الممالك الإسلامية في أفريقيا – الإنسان، المعرفة، والتاريخ المنسي
مقدمة: أفريقيا الإسلامية وتاريخها المنسي
رغم أن التاريخ الإسلامي غالبًا ما يُستحضر من خلال أمجاد بغداد ودمشق وقرطبة، فإن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كانت ميدانًا حيويًا لحضارات إسلامية كبرى، أغلبها ظل منسيًا أو مهمَّشًا في السرديات التاريخية الرسمية. ومن بين هذه الحضارات، تبرز سلطنة سنار (الفونج) ككيان إسلامي متميّز نشأ في وسط السودان، وجمع في تكوينه بين التأثيرات الإسلامية المشرقية ممثَّلة في الأزهر الشريف، والتقاليد الإسلامية الغربية ممثَّلة في تمبكتو، ليشكل بذلك رابطًا حضاريًا بين مشرق أفريقيا ومغربها.
أولًا: تعريف بسلطنة سنار (الفونج)
سلطنة سنار، المعروفة كذلك بسلطنة الفونج، هي دولة إسلامية قامت في المنطقة المعروفة حاليًا بوسط السودان، وامتد نفوذها من القرن السادس عشر حتى بداية القرن التاسع عشر (1504–1821م). وكانت مدينة سنار عاصمة لها، ومنها خرجت الدعوة إلى الإسلام في عمق أفريقيا السودانية، وبرزت كمركز ديني وتعليمي وسياسي مهيمن في وادي النيل الأوسط.
ثانيًا: المؤسسون الأوائل للسلطنة
• عمارة دنقس: يُعد المؤسس الفعلي للسلطنة، وقد أعلن قيامها بعد تحالفه مع العرب بقيادة عبد الله جماع، عقب سقوط مملكة علوة المسيحية. امتاز بالحكمة والقدرة على الدمج بين المكونات الأفريقية والعربية.
• عبد الله جماع: زعيم عربي من قبائل القحطانيين، أسهم في توطيد الحكم الإسلامي، وكانت له علاقات قوية بالعلماء والدعاة، ما أسهم في نشر الإسلام وتعليم الشريعة.
ثالثًا: تاريخ التأسيس والامتداد الجغرافي
تأسست السلطنة رسميًا سنة 1504م، وامتدت حدودها من نهر النيل الأبيض شرقًا إلى كردفان غربًا، ومن الخرطوم شمالًا إلى أعالي النيل الأزرق جنوبًا. كانت موقعًا استراتيجيًا يربط بين مصر والحبشة وتمبكتو.
رابعًا: إنجازات السلطنة
• نشر الإسلام وتعليم القرآن الكريم في المناطق النوبية والوسطى.
• تأسيس مدارس تعليمية وخلاوي، استقطبت طلابًا من أقاليم عدة.
• وضع نظام إداري شرعي مستند إلى الشريعة الإسلامية والعرف القبلي.
• توسيع التجارة الإقليمية والارتباط بمراكز الحج والعلم (الأزهر، مكة، تمبكتو).
خامسًا: أسباب زوال السلطنة
• تفكك السلطة المركزية وظهور الانقسامات القبلية.
• تراجع البنية التعليمية والدينية.
• اجتياح محمد علي باشا للسودان عام 1821م.
• انهيار البنية الاقتصادية بفعل الصراعات الداخلية والجفاف.
سادسًا: السلطنة في عيون المؤرخين المسلمين
ذكرت مصادر إسلامية عديدة السلطنة، منها:
• عبد الرحمن الجبرتي: الذي أشار إلى التواصل العلمي والديني بين علماء السودان ومصر.
• الرحالة العثماني أوليا جلبي: أشار في رحلته إلى “التمسك بالتصوف والشافعية”، وذكر أن “علماء الفونج يرسلون طلابهم إلى الأزهر الشريف”.
سابعًا: السلطنة في كتابات المؤرخين الأفارقة
يرى المؤرخ السنغالي شيخ أنتا ديوب أن:
“التاريخ الأفريقي تعرّض للتشويه والانتقاص بسبب النظرة الاستشراقية الأوروبية. ولكن الوقائع تُثبت أن الممالك الإسلامية في أفريقيا، ومنها سنار، كانت مراكز حضارية متقدمة.”
أما المفكر الغاني جون هنريك كلارك فيقول:
“من يسيطر على التاريخ، يسيطر على صورة الإنسان عن نفسه… وسلطنة سنار نموذج مهم يجب أن يُستعاد في الوعي الجماعي الأفريقي.”
كما يرى المؤرخون المعاصرون (O’Fahey & Spaulding) أن:
“سلطنة الفونج شهدت تغيرات في شكل الدولة السودانية مع تعاظم الأسلمة وانتشار التصوف وظهور النخب الدينية الجديدة.”
ثامنًا: السلطنة في كتابات المستشرقين
• A.C.S. Peacock (جامعة سانت أندروز):
“المصادر العثمانية تكشف عن علاقة تعاونية بين السلطنة والإمبراطورية العثمانية، إذ حافظت الفونج على استقلالها السياسي مقابل روابط دينية ومذهبية.”
• P. M. Holt:
“كانت سنار الحلقة الشرقية ضمن سلسلة الدول الإسلامية في بلاد السودان جنوب الصحراء.”
• Alan Moorhead (في كتابه The Blue Nile):
“كانت نهاية سلطنة سنار بائسة… عاصمتها آيلة للسقوط، والسلطان الأخير محدود الذكاء، لم يدرك فداحة التهديد القادم من الشمال.”
تاسعًا: السلطنة في مراكز البحوث والدراسات الحديثة
• تشهد الجامعات العالمية اهتمامًا متزايدًا بسلطنة سنار ضمن دراسات الإسلام في أفريقيا، ومن ذلك أطروحات في هارفارد وكولومبيا عن الإسلام الصوفي في السودان.
• أشارت تقارير جامعة وارسو إلى غياب التنقيبات الأثرية في موقع سنار، مما يعقّد فهمنا لهويتها الحضرية.
• مشاريع “الإسلام في الجنوب العالمي” تسعى لإعادة الاعتبار لسنار كسلطة دينية مستقلة عن النموذج المشرقي.
عاشرًا: دلالة السلطنة للأجيال الأفريقية اليوم
تمثل سلطنة سنار نموذجًا حضاريًا أفريقيًا يُجسد قدرة القارة على إنتاج أنظمة حكم راشدة، مستندة إلى الدين والعرف والتقاليد المحلية. وهي دعوة لاستلهام القوة من التاريخ لاجتراح مستقبل متوازن بين الأصالة والمعاصرة.
خاتمة: عبرة التاريخ وبوصلة المستقبل
تُعلّمنا سلطنة سنار أن المجد لا يُستدام إلا بالعلم، والوحدة، والعدل. وأن الأمم التي تنسى ماضيها، تخسر بوصلتها في الحاضر. فمن واجبنا اليوم أن نستدعي هذا التاريخ لا من باب النوستالجيا، بل لبناء مستقبل يتكئ على تراث أصيل، ويصحح النظرة المختزلة إلى أفريقيا والإسلام معًا.
⸻
المصادر والمراجع
1. حسن أحمد إبراهيم، سلطنة الفونج الإسلامية في السودان، جامعة الخرطوم.
2. يوسف فضل حسن، تاريخ السودان في العهد الإسلامي.
3. عبد الله الطيب، اللغة والثقافة في السودان الوسيط.
4. محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث.
5. P. M. Holt, “The Funj Origins: A Critique and New Evidence,” Journal of African History.
6. A. C. S. Peacock, “Ottomans and the Funj Sultanate,” Bulletin of the School of Oriental and African Studies.
7. Alan Moorhead, The Blue Nile, Harper.
8. O’Fahey, R. S. & Spaulding, J., Kingdoms of the Sudan, London.
9. Cheikh Anta Diop, The African Origin of Civilization: Myth or Reality.
10. John Henrik Clarke, African People in World History.
11. تقارير التنقيبات – جامعة وارسو، قسم الآثار الأفريقية.
12. أطروحات هارفارد وكولومبيا – حول الإسلام في السودان الأوسط






