رمضان في مكة ليس مجرد شهر بل هو قصة تتكرر كل عام، مشحونة بالروحانية والتأمل والعبادة. وبينما يبدأ الناس في التأقلم مع نسائمه في أيامه الأولى يدرك أهل مكة بحكم تجربتهم العميقة مع الزمن الرمضاني أن سرعته تتضاعف مع اقتراب نهايته ولهذا نشأت مقولتهم الشهيرة: “إذا عشر بشر”.
هذه العبارة ليست مجرد إشارة إلى تسارع الأيام بل تحمل في طياتها حكمة عميقة ورسالة تحفيزية للمتسابقين في ميادين الطاعة وكأنها نداء مبطن لمن يدرك أن رمضان لن ينتظر أحداً وأن اللحظات القادمة هي أثمن ما في الشهر الكريم لأنها تحمل بين طياتها ليلة خيراً من ألف شهر.
تسارع الزمن: الإدراك المكي لنفحات الرحيل
لطالما كان أهل مكة أصحاب بصيرة في التعامل مع الأزمنة المباركة فهم يرون أن الأيام الأولى من رمضان تمر بهدوء حيث يتأقلم الناس مع الصيام والعبادة ولكن مع دخول العشر الأواخر يتغير كل شيء:
• تتحول مكة إلى مركز للطاعة المكثفة، فالحرم يمتلئ بالمعتكفين والأجواء تتشح بالروحانية والدعوات تعلو وكأن المدينة كلها تستعد لاستقبال ضيف كريم.
• الإحساس بقرب رحيل الشهر يجعل القلوب أكثر تعلقاً بالطاعات حيث يدرك الصائمون أن ما تبقى هو الفرصة الأخيرة لجني الحسنات المضاعفة.
• ترقب ليلة القدر التي تعادل في فضلها أكثر من 83 عاماً يجعل الجميع في حالة استنفار روحاني حيث تلهج الألسن بالدعاء وتخشع القلوب ويتسابق الجميع في استغلالها.
ومن هنا فإن عبارة “إذا عشر بشر” ليست مجرد وصف لحالة زمانية بل هي تذكير بأن الرحلة بلغت محطتها الأخيرة حيث تشتد المنافسة بين العابدين ويصبح كل عمل مهما كان صغيراً مضاعف الأجر والقيمة.
إذا عشر بشر: دعوة للتنافس في الخير
ما إن تحل العشر الأواخر حتى يبدأ السباق الحقيقي ليس سباقًا مادياً بل سباقاً في الطاعات والقربات سباقاً نحو مغفرة لا تضاهى ورحمة بلا حدود. وهنا تظهر الحكمة من مقولة أهل مكة فهي لا تعني فقط أن الأيام الأخيرة ستشهد ازدحاماً بشرياً في الحرم بل تعني أن البركة ستزداد والفرص ستتضاعف والنفحات الإلهية ستتنزل.
ولذلك فإن هذه العبارة بمثابة جرس إنذار وتنبيه لكل من شغلته الأيام الأولى من رمضان، وكأنها تقول:
• الفرصة لا تزال قائمة فاغتنمها.
• ما فات يمكن تعويضه في هذه الأيام العشر.
• ليلة القدر قد تكون أقرب مما تظن فلا تتركها تفوتك.
تحري ليلة القدر: تاج العشر الأواخر
ليس غريباً أن ترتبط هذه العبارة بليلة القدر فهي ليلة تفصل بين الغافلين والمجتهدين ليلة قد تكون الفارق بين عمر عادي وعمرٍ حافل بالحسنات التي تعادل قروناً.
وأهل مكة الذين عاشوا رمضان بكل تفاصيله على مدى سنوات طويلة يدركون أن العشر الأواخر ليست كأي ليال ولذلك تجدهم يحرصون على الاعتكاف والإكثار من الذكر وإطالة القيام والتضرع بالدعاء إيماناً منهم بأن “إذا عشر بشر” تعني أن أبواب الرحمة فتحت على مصراعيها وأن من ضيع هذه الأيام قد فاته كنز لا يعوض.
سباق لا مكان فيه للمتكاسلين
تختصر مقولة “إذا عشر بشر” كل فلسفة العشر الأواخر من رمضان فهي ليست مجرد كلمات بل خارطة طريق لمن يريد استثمار الأيام الأخيرة من الشهر الفضيل.
إنها دعوة للحركة للمجاهدة للعودة إلى الله للاستعداد ليوم الرحيل ولمحاولة الظفر بنفحة من ليلة القدر التي قد تجعل من إنسان عادي عبداً مقرباً إلى الله بفضل ركعة خاشعة أو دعوة صادقة في ظلمة الليل.
فإذا كنت من الذين أرهقتهم الأيام الأولى من رمضان فتذكر أن السباق الحقيقي يبدأ الآن وكن من أولئك الذين إذا قيل لهم “إذا عشر بشر” أدركوا أن الوقت حان ليكونوا من الفائزين.
• عضو هيئة تدريس – جامعة المؤسس