المقالات

الاقتصاد المعرفي.. تعليم ومنهج ومعلم جيد

إن أعظم تغيير وقع في تأريخ البشرية بعد عصري (الزراعة) و(الصناعة)، تمثل في عصر ثورة التكنولوجيا فائقة التطور، وما نجم عنها من ثورة في المعلوماتية والاتصالات. لقد باتت (المعرفة) المورد الاستراتيجي والأساسي في الحياة الاقتصادية في عصرنا الحالي.
فبعدما كانت (الأرض) والعمل (الجسدي) هما المورد الرئيسي للثروة في عصر (الزراعة)، ثم أصبح رأس (المال) و(الآلة) هما المورد الرئيسي لهذه الثروة في العصر (الصناعي)، أصبحت (المعرفة) هي عنصر الإنتاج الرئيسي في عصرنا الحالي، فغدا إنتاج (المعرفة) و(استثمارها) وتداولها، مصدر الثروة والتنمية المستدامة، وأضحت (المعرفة) عبارة عن نوع جديد من رأس المال يقوم على الأفكار فائقة الفعالية.

إنها تجسد رأس المال المعرفي الذي يُعتبر أكثر أهمية في الاقتصاد الحديث من رأس المال المادي، فالثروة الحقيقية للأمم اليوم تكمن في عقول أبنائها ومخرجاتها المعرفية، قبل ثرواتها الطبيعية.
والسمة الرئيسية لهذه المرحلة أن النظرية صارت تسبق التطبيق، فتسارعت بصورة هائلة عملية تجسيد الاكتشافات النظرية في سلع وخدمات ذات محتوى معرفي، وقُصرت إلى الحدود الدنيا دورة حياة السلعة، من الابتكار إلى الإنتاج والتسويق ثم الأفول، لتحل مكانها سلعة جديدة ذات محتوى معرفي أكثر حداثة، كل ذلك في فترة زمنية قياسية لا تزيد عن بضعة أشهر.

إن الجامعات في دول العالم المتقدم تنفق حالياً أموالاً طائلة على البحث العلمي، الذي أصبح اليوم أشبه بمورد مالي غير قابل للنضوب، وغدت عائداته وجدوى الاستثمار فيه لا يُضاهى، بعكس الموارد الطبيعية التي تنضب مع مرور الوقت.
فإذا كان الاقتصاد بمفهومه التقليدي هو اقتصاد الندرة، أي ندرة الموارد مقابل التطور اللامحدود لحاجات الناس ومتطلباتهم، فإن الاقتصاد المبني على المعرفة هو اقتصاد الوفرة.

فمع تطور المعرفة، من حيث لا تُستنفد، بل تتوالد ذاتياً بالاستهلاك، فإن ثمة فوارق جوهرية بين (الاقتصاد المعرفي) و(الاقتصاد التقليدي) تتجلى بالدرجة الأولى، في كون المعرفة، خلافاً للموارد الأخرى المتعددة، لا تتناقص مع استخدامها، كما أنها لا تغير شكلها، إضافة إلى ذلك، فإن المعارف لا قيود على حركتها، فهي تنتقل بسهولة ومن دون عوائق عبر الحدود.
ففي حال ظهور معرفة جديدة في منطقة، فإنها تنتشر خلال فترة وجيزة في مختلف أنحاء العالم، ويصبح استخدامها متاحاً في الوقت عينه للجميع.

استناداً إلى ما تقدم، يمكن القول بأن من أهم خصائص الاقتصاد المعرفي توظيف العلم والتكنولوجيا على نحو متعاظم ومستمر في ميادين الاقتصاد كافة، ودور المعرفة كعامل حاسم في عملية الإنتاج.
لقد احتلت المعرفة المكان الأول محل رأس المال، وغدت المصدر الرئيسي للنمو، وباتت تُستثمر كعنصر أساسي لتعزيز الميزة التنافسية للشركات والبلدان.
ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا توفر (تعليم جيد) و(منهج تعليمي جيد) والأهم من ذلك كله توفر (معلم جيد).

لقد تقاتل الناس قديماً حول الغذاء والملجأ، ثم اشتعلت المعارك بسبب الأديان والمعتقدات، وفي أيامنا هذه تدور روحي المعارك حول التطور المعرفي.

أ. د. بكري معتوق عساس

مدير جامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى