المقالات

الأبراج المائلة

«زاوية منفرجة»

دخلت بلاط الصحافة متسللا عبر نافذة الترجمة، في جريدة اليوم السعودية، وكتبت بضع مقالات في جريدة القافلة التي تصدرها شركة أرامكو خلال عملي مترجما لديها، ثم عملت في جريدة الراية القطرية، وذات يوم فوجئت بزميل لي يبلغني بأنه سيسافر خارج قطر، ويطلب مني تحرير مادة الأبراج، فقلت له إنني- مع احترامي له- لا أعرف شيئا، ولا أريد أن أعرف شيئا عن الأبراج، فابتسم وقال لي: بصراحة أنا أيضا لا أعرف عنها كثير شيء، وأنقل كلاما من هنا وهناك وأوزعه على الأبراج كيفما اتفق، ولكن طالما للأبراج عمود ثابت في الصحيفة، فإنني ملزم بتحريره ولابد ان أجد زميلا يقوم بتلك المهمة في غيابي
قلت لصاحبي: توكل على الله وأترك أمر الأبراج لي؛ وفي أول تجربة لي معها جلست وعبأت كل برج بتكهنات من شاكلة، برج الحمل: وظيفتك في خطر بسبب تقارب الجوزاء والعقرب، وهناك من يخطط لتوريطك في مخالفة إدارية قد تكلفك حريتك ما لم يتم فض الاشتباك بين البرجين. برج العذراء: اصرف النظر عن موضوع الزواج، وإذا كنت متزوجا فإن دخول زحل في مدار الزهرة ينبئ عن طلاق عبر المحاكم
وعلى مدى أربعة أيام متتالية واصلت قصف “البروجيين” بنُذُر أمور خطيرة، ثم استدعاني الأستاذ ناصر العثمان، رئيس التحرير، فأدركت أن الأمر يتعلق بما قمت ب”فبركته” عن الأبراج، وتوجهت الى مكتبه وأنا أتمتم “وجعلنا من بين أيدهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون”، وبالفعل كان الأمر بشأن مادة الأبراج، لأن قراء كثيرين احتجوا واشتكوا وشكُّوا في محتواها الذي صار خاليا من البشريات، فقلت له إنني وبكل صراحة لا أؤمن بالأبراج، وأنني تعمدت جعل كل الأبراج شؤما كي اجعل الناس ينفرون منها، فضحك الأستاذ ناصر وقال: خيرا فعلت، واعتبارا من عدد الغد لا مكان للأبراج في جريدة الراية

نشأت في بيئة راجت فيها التخاريف حول قدرات بعض الناس على الرجم بالغيب، والتحكم في مجريات الأقدار، وأذكر وأنا في نحو العاشرة من العمر، كيف استضاف بيتنا ذات صباح غجرية تزعم أنها وباستخدام سبع صدفات بحرية تستطيع التكهن بحظوظ كل من يرمي بقطعة معدنية عالية القيمة بين اصدافها الملقاة على التراب أمامها، وكان عدد من النسوة والصبية الصغار- وكنت واحدا منهم- نشكل حلقة حول الغجرية، عندما نثرت صدفاتها وقالت عن واحدة منها جاءت في اتجاهي وهي تشير إليّ: أبشر، عمرك طويل وأجلك قصير، فما كان من أمي إلا أن نفحتها قطعة نقدية إضافية، بحسبان أنها زفت بشرى لولدها، وتباهيت أمام أحد أقاربي المتعلمين بما قالته الغجرية عني، فإذا به ينسبني الى دابة من ذوات الأربع، ثم يشرح لي معنى “الأجل” وأنه لا يمكن ان يكون الانسان قصير العمر، وطويله في نفس الوقت
خلال تنقيبي عن تُرَّهات المنجمين عثرت على شخص يسمى الألوسي ويسبق اسمه لقب دكتور، ولم أكن قد سمعت من قبل أو من بعد عن وجود جامعة أو روضة في أي بقعة في العالم تعطي الدرجات تحت أو فوق الجامعية في التخريف والشعوذة، ولكنني علمت أنه كان يملك محلا لقراءة الطالع في بغداد، ثم صار يتنبأ بأوضاع الأمور في فنزويلا وكمبوديا وكندا، وكان قد تكهن في مطلع عام 2003 بأن نظام صدام حسين سيعقد سلاما دائما مع الولايات المتحدة، وبعدها بنحو شهرين كانت القوات الأمريكية قد دخلت بغداد وكان ما كان من أمر القبض على صدام حسين وإعدامه
ثم اكتشفت ماغي فرح، التي تخرج في ديسمبر من كل عام على جماهيرها بكلام من شاكلة: يتغير الوضع الفلكي وينتقل كوكب الحظ في النصف الثاني من السنة. بمعنى أن بداية السنة ستكون جيدة على البعض ونهاية السنة جيدة على البعض الآخر. (ومثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن شخص شرب شوربة ماجي منتهية الصلاحية) لكنّ هناك برجين يمتلكان حظوظاً كثيرة هذا العام وسيتخلّصان من الكثير من المعاناة والضغوط وهما القوس والجوزاء. أما العذراء فسيكون الحظ بالنسبة إليه تصاعدياً. ولك ان تتساءل: كيف يملك مواليد

القوس والجوزاء حظوظا كثيرة، وهم سيتخلصون من الكثير من المعاناة والضغوط؟ معنى كلامها أنهم سيعانون من بعض الضغوط والمعاناة حتى وإن تخلصوا من الكثير منها. وهذا السياق يشي أيضا بأن ماغي لا تعرف معنى كلمة “تصاعدية”
ترتبط توقعات الأبراج، بالتنجيم الذي يعتمد على مجموعة من التقاليد والاعتقادات المرتبطة بالأوضاع النسبية للأجرام السماوية؛ حيث يتم استنباط تكهنات عن الأمور الشخصية للبشر، وشؤونهم الدنيوية. وأول وأكبر من يرفض التنجيم القائم على الأبراج هم علماء الفلك، الذين يقوم علمهم على دراسة أحوال وحركة الكواكب والنجوم والمجرات بوسائل متفق عليها ومتعارف عليها، والفلكيون هم من أثبت أن حرفة التنجيم ظهرت أول الأمر في الحضارة البابلية، ويستدل على ذلك بأول وثيقة نشرت عن التنجيم كانت في بابل، ثم اختلط التنجيم البابلي بالحضارة المصرية وخرج لبقية أرجاء لعالم
أما الدليل الحاسم والقاطع على أن الطوالع التي تقوم على ما يسمى بالأبراج كلام يطلق على عواهنه، بلا سند علمي فهو أنك إذا قرأت ما يجيء عنها في سبع صحف صادرة في نفس اليوم، فإنك ستجد أن كل واحدة منها تختلف عن الأخريات، والاعتقاد أن مواليد كل برج لهم صفات معينة مشتركة فاسد، لأنه يولد في الساعة الواحدة الملايين من الناس، وهم لا يحملون صفات مشتركة ومتوافقة، ومما يدل أيضا على بطلان ذلك الاعتقاد، اختلاف المنجمين أنفسهم في عدد الأبراج ، وفي أسمائها فبينما هي عند البعض: الحمل، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت، فهي عند الصينيين مثلا: الفأر ، والقط ، والحصان ، والديك ، والجاموس ، والتنين ، والماعز ، والكلب ، والنمر، والثعبان ، والقرد ، والخنزير
أما رأي الدين في الأبراج فهو أنه “يحرم نشرها والنظر فيها وترويجها بين الناس، ولا يجوز تصديقهم، بل هو من شعب الكفر والقدح في التوحيد،

والواجب الحذر من ذلك، والتواصي بتركه، والاعتماد على الله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه في كل الأمور”
——————-
Jafabbas19@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى