السوابق عوائق، فالعقل البشري يتطبع بالأسبق إليه، وكلما طالت فترة خضوع الفرد للتطبيع تكوَّنت دون انطلاقه عقبات عنيدة. فالطفل يتبرمج تلقائيًا بما في البيئة، لكنه إذا تفتّح وعيه هبَّ يتساءل، غير أن التعليم القسري النظامي يُطفئ التساؤل.
وقد كان من حظ الأديب أحمد السباعي أن تساؤلاته لم تتعرض للقمع والإطفاء، فبقي متسائلًا ناقدًا لأنه نجا من التأطير التعليمي.
في وقت مبكر من حياتي تعرَّفت على هذا الأديب، فقد عثرت على كتابين له، أحدهما بمثابة سيرة ذاتية بعنوان (أبو زامل: قصة الجيل الماضي)، والثاني بعنوان (يوميات مجنون).
ثم علمت بأنه أحد رواد الصحافة والأدب في المملكة العربية السعودية، فقد عمل رئيسًا لتحرير صحيفة صوت الحجاز، ثم أصدر جريدة الندوة، وأسس مجلة قريش الأسبوعية، كما أنشأ مطبعة…
وهذا النشاط المبكر في الصحافة والطباعة والنشر يبيّن أن أحمد السباعي من روّاد النهضة في المملكة العربية السعودية،
لذلك قدّرته المملكة فتم منحه جائزة الدولة التقديرية للأدب، شأنه شأن الروّاد: حمد الجاسر، وعبدالله بن خميس، وعبدالله بن إدريس، وآخرين…
وله محاولات في كتابة القصة صدرت بعنوان (خالتي كدرجان وقصص أخرى)،
وله كتاب بعنوان (دعونا نمشِ)، وهو دعوة إلى الانفتاح والنقد الاجتماعي، فقد كان يضيق بالتحجّر ويأبى التزمّت، ويُعتبر ذلك في وقته صوتًا جريئًا…
وله كتابٌ بعنوان (تاريخ مكة)، تتبّع فيه الأحداث التي مرّت بمكة من أقدم الأزمنة إلى الزمن الذي عاشه السباعي…
وله كتابٌ في النقد الاجتماعي بعنوان (يوميات مجنون)، وقد كتب عنه رضوان إبراهيم يقول:
“الفرق بين أعقل العقلاء وأجنّ المجانين هو خطٌّ وهمي، والمجنون الذي ينثر خواطره هنا هو فيلسوفٌ اجتماعي خطير، لم يتحلل من قيود الحياة للعبث أو للدعة، ولكن تمرده تحليقٌ فوق حواجز النفاق وأغشية الرياء، ليُطلق قذائفه على الزيف والتضليل والجمود، يصوّرها للعقلاء في إطار الجنون، ومن حسن الحظ أنه أسلم زمامه لقلمٍ متمرّسٍ بأدواء المجتمع والطبّ لها؛ فإن قلم السباعي يحمل في شُبّاته مزيجًا من وعي العقلاء وحرية المجانين، وبهذا المزيج يمثّل مبضع الجراح، كأنه موكّل بالفساد والعفن في المجتمع، يستأصلها ليسلم للمجتمع كيانه فيتنفس ملء رئتيه… تحيةً لهذا القلم لوعيه وجرأته وحريته البنّاءة”.
لم يتلقَّ السباعي سوى تعليمٍ أوّلي، لكنه كان يفكّر بعقل الرائد، وينظر إلى المجتمع بعقل الناقد، فكوّن ذاته تكوين الرائد الناقد، لا تكوين التابع القانع المنقاد المستسلم…
وقد قام الوجيه الأستاذ عبدالمقصود خوجة بطباعة الأعمال الكاملة للأديب أحمد السباعي في ستة مجلدات، في طباعة أنيقة وتجليد فاخر، وكتب الخوجة مقدمة جاء فيها:
“أسّس أحمد السباعي مدرسته الخاصة في الكتابة وأسلوبه المتفرّد”،
ويضيف الخوجة:
“رغم أن السباعي أخذ بحظٍ يسيرٍ من التعليم النظامي، إلا أن همّته العالية لم تقصّر في طلب العلم، فأسرج ليله وأضنى نهاره بين أمهات الكتب، ثم اتجه إلى الكتابة الإبداعية بثقةٍ كبيرة، تاركًا لأمته تراثًا أدبيًا فيه العمق والشفافية والألق، فهو أديبٌ مطبوع، شقّ طريقه بإصرار وعفوية”.
لستُ بهذا المقال القصير أهدف إلى التعريف بالأديب الرائد أحمد السباعي، ولكني أُذَكِّر وأقدّم رأس الخيط لمن يرغب في الاستقصاء