المقالات

تكوين المعلم السعودي: استيراد بلا تمكين أم بناء ينبع من الداخل؟

تتسارع المبادرات النوعية في المملكة في سعيها لتطوير التعليم، ويظل تكوين المعلمالسعودي حجر الزاوية في كل إصلاح تعليمي حقيقي. وفي خضم هذه التحولات، تبرز تساؤلاتمشروعة حول مدى مواءمة بعض النماذج المستوردة للسياق المحلي، خاصةً حين تكونمنقولة من بيئات تعليمية شديدة الخصوصية، تختلف جذريًا في بنيتها وثقافتها عن واقعناالوطني.

في هذا السياق، أعلن المعهد الوطني للتطوير المهني للمعلمين مؤخرًا عن تبني النموذجالسنغافوري في إعداد المعلم قبل الخدمة، بالتعاون المباشر مع المعهد الوطني السنغافوريللتعليم (NIE وبدأ بالفعل تدريب مجموعة من أعضاء هيئة التدريس في ست جامعاتسعودية لتطبيق النموذج على الواقع المحلي. وهي مبادرة لافتة للاهتمام، لكنها تثير في الوقتذاته العديد من التساؤلات:

هل يُعقل أن يكون النجاح في بيئة مركزية صغيرة كسنغافورة قابلًا للنسخ في نظام تعليميواسع ومتنوع كالنظام السعودي؟

وهل يُعد هذا التوجه حلًا استراتيجيًا، أم

مجازفة غير محسوبة تتجاوز متطلبات

المشروع الوطني الأشمل؟

وعلى الرغم من النجاح اللافت للنموذج السنغافوري في سياقه المحلي، فإن هذا النجاح لايمكن فصله عن طبيعة البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها. فالنموذج يعكسفلسفة تعليمية تشكّلت في سياق دولة مدنية ذات تركيبة إثنية متعددة، حيث استُخدم التعليمكأداة لإعادة تشكيل الهوية الوطنية وتعزيز الانسجام العرقي والانضباط المجتمعي. وهيخصائص نشأت في بيئة تختلف جذريًا عن السياق السعودي، الذي يتسم بخصوصية دينيةوثقافية، ويضم نظامًا تعليميًا واسع النطاق ومتعدد الأبعاد جغرافيًا واجتماعيًا.

ومن هنا، فإن نقل النموذج كما هو، دون إعادة صياغة فلسفية تتواءم مع بيئتنا، يُعد تجاوزًالمبدأ “الملاءمة السياقية” الذي يجب أن يُشكّل أساس أي إصلاح تعليمي ناجح. فعمليةالاستنساخ دون تكييف قد تُكرّس فجوة جديدة بين ما نحتاجه فعلاً وما يُنفَّذ نظريًا.

ومع التسليم بصعوبة المواءمة، فإن جوهر التحدي لا يكمن فقط في اختلاف البيئات، وإنما فيغياب رؤية واضحة ومتكاملة تقود هذا التكوين وتؤطره. وهو ما يستدعي مساءلة أعمق لجدوىهذا التوجه أصلًا. فالفئة المستهدفة بالتدريبأعضاء هيئة التدريس في كليات التربيةلاتمثل نقطة الضعف في المنظومة، بل تُعد من أبرز عناصر القوة؛ فهم أكاديميون تلقوا تأهيلهمالعلمي في أرقى الجامعات المحلية والعالمية، ويتمتعون بخبرات أكاديمية، وعلمية، وبحثية،وتدريبية واسعة. إذًا، هل المشكلة في الأدوات، أم في غياب المشروع الوطني؟

إن إعادة تدريبهم لتدريس مقررات النموذج السنغافوري لا تُقدِّم حلًا حقيقيًا في جوهرها، وإنماقد تُعيد إنتاج الإشكالية بصورة مختلفة.

وهنا يُطرح التساؤل: ماذا سيضيف هذا التدريب لأستاذ جامعي يحمل الدكتوراه في التربية؟

في المقابل، يبرز خيار أكثر اتساقًا مع الواقع الوطني: صياغة نموذج سعودي لتكوين المعلم، لاكخطة طارئة أو مبادرة مستعجلة، بل من خلال رؤية فكرية متكاملة تنبع من حاجة وطنية لبناءنموذج يُعبّر عن الهوية التعليمية السعودية، وينسجم مع أهداف رؤية المملكة 2030. هذهالرؤيةكما تُطرح هنالا تزال اجتهادًا تحليليًا مطروحًا للنقاش، لكنها تنطلق من معطياتالميدان، وتستند إلى فلسفة تربوية أصيلة تتماهى مع النظام القيمي، والسياق الثقافيوالاجتماعي، والتطلعات الوطنية المستقبلية.

ففي هذا التصور، لا يُنظر إلى التعليم باعتباره خدمة حكومية فحسب، بل يُعد مشروعًا وطنيًالبناء الإنسان. ولا يتحدد دور المعلم في نقل المعرفة فقط، بل يتجاوزه إلى القيادة التربويةوصناعة البيئة التعليمية. أما التكوين، فلا يُختزل في تدريب قبلي، بل يقوم على مسار مهنيتكاملي ممتد، يدمج بين النظرية والممارسة، ويمنح المعلم دورًا تكوينيًا أصيلًا يتجاوز التكيّفالظرفي.

يقوم النموذج السعودي المقترح على ستة مرتكزات أساسية:
الربط بين الجامعة والمدرسة: دمج الإعداد الأكاديمي بالتهيئة الصفية المبكرة، لضمانجاهزية واقعية وردم الفجوة بين كليات التربية وبيئات التعليم الفعلية.
المهارات المستقبلية: ترسيخ كفايات التفكير النقدي، والابتكار، والمهارات الرقمية، بوصفهاأساسًا لتعليم المستقبل.
المسار المهني المتكامل: تصميم مسار يمتد من التخرج إلى التقاعد، يشمل التمكينوالتطوير المستمر، ويُعيد تعريف “مهنة التعليم” كمشروع احترافي متجدد.
التقييم المبني على الأداء الواقعي: اعتماد ممارسات تقييم تستند إلى نواتج التعلم داخلالصف، لا إلى الشهادات أو المعايير المجردة، بما يعزز ثقافة المساءلة المهنية.
توطين الممارسة التربوية: تمكين المعلم من فهم بيئته واستلهام الحلول منها، بدلًا مناستيراد ممارسات لا تنتمي إلى سياقنا الثقافي.
الانفتاح الواعي على التجارب العالمية: استلهام المبادئ الكبرى من التجارب دوناستنساخها، بما يُعزز الخصوصية الوطنية ويصونها من الذوبان في نماذج لا تعبّر عنها.

وإذا كانت المملكة تُعد إحدى دول مجموعة العشرين، وتزخر بإمكانات بشرية وماديةومؤسسات علمية مرموقة، فمن غير المنطقي اختزال طموح تكوين المعلم في نموذج خارجي. الأجدرفي هذا السياقأن تُوجَّه هذه الطاقات إلى بناء نموذج وطني يعكس هوية التعليمالسعودي، ويستجيب للاحتياج الحقيقي.

ولكي يتحول هذا النموذج من تصور نظري إلى مشروع واقعي، يُقترح إنشاء مرصد وطنيمستقل لتقدير الاحتياج التربوي، يُسند إلى مركز بحثي وطني، ويُدمج فيه ممثلو الميدان،والجامعات، وخبراء التخطيط التربوي، لتوجيه السياسات بناءً على بيانات وتحليلات دقيقة،وتقليص الفجوة بين التخطيط المركزي وواقع المدارس.

ومن هذا المنطلق، فإن بناء القرار التربوي الرشيد لا يمكن أن يستند إلى نماذج مستوردة، بليجب أن ينبثق من رؤى وطنية نابعة من الداخل، تعبّر بصدق وعمق عن خصوصية المملكةالثقافية والاجتماعية وتطلعاتها التنموية.
والمعلم السعودي لا يحتاج إلى استنساخ تجارب الآخرين، بل إلى مشروع يُعيد الاعتبار لدوره،ويصوغ تكوينه بما يتسق مع هوية التعليم في المملكة وتطلعاتها.

فالمملكة، بما تملكه من إمكانات مادية وبشرية ومؤسساتية، قادرة على إنتاج نموذج وطنيمتميز، يعكس رؤيتها، ويخدم مستقبلها التعليمي بثقة واقتدار.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تكوين المعلم السعودي: استيراد بلا تمكين أم بناء ينبع من الداخل؟

    عنوان جاذب لمحتوى رائع وجميل وجدير بالتمعن وليس القراءة فقط
    • مقال قيم ويعالج (تكوين المعلم) الذي هو اصعب مرتكزات التعليم واهم اركانه.

  2. “فالمملكة، بما تملكه من إمكانات مادية وبشرية ومؤسساتية، قادرة على إنتاج نموذج وطني متميز ، يعكس رؤيتها، ويخدم مستقبلها التعليمي بثقة واقتدار.
    أتفق مع الطرح ورؤية الصحيفة فاستيراد التجارب وبالذات في المجال التربوي لم يعد مجديا ؛ فالجامعات السعودية العريقة والكليات التربوية الرائدة التي أسهمت في تكوين المعلم السعودي المتميز قادرة على تحقيق ذلك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى