المقالات

“مكة” في قلب ابن بطوطة: تجليات المكان وسكينة الروح

حين وطئت قدم ابن بطوطة أرض مكة المكرمة في عام 1326م، لم يكن مجرّد رحّالة يبحث عن المغامرة، بل كان قلبًا تهيّأ للوصال، وعينًا اشتاقت إلى الحرم، وروحًا جاءت من أعماق المغرب لترتمي في أحضان بيت الله الحرام. وقد سجّل في رحلته ما يتجاوز الوصف الجغرافي، إلى لحظة التجلّي الروحي، حيث تقف اللغة على أطراف الدهشة.
يقول في وصف أول رؤيته للكعبة المشرفة:
“فلما وقع بصري على الكعبة المعظمة، نسيتُ الآباء والأمهات، وارتجف القلب خشوعًا، وجرت العبرة إجلالًا وتعظيمًا.”
في هذه اللحظة المفعمة بالوجد، لا يعود المشهد مجرد صورة، بل يتحول إلى رعشة روحية تلامس عمق الذات. فالكعبة في عين ابن بطوطة ليست بناءً من حجارة سوداء، بل مرآة للعالم الآخر، ونقطة التقاء بين الأرض والسماء.
ويصف المسجد الحرام بقوله:
“لا يخلو المسجد من الطائفين والعاكفين، آناء الليل وأطراف النهار، كأنهم أمواج تتلاحق، لا ينقطع منها مدد، ولا يفتر فيها سعي.”
هنا يرسم ابن بطوطة صورة حركية، مشحونة بالحياة والتسبيح، تجعل من المسجد الحرام قلبًا نابضًا للكون،
لا يعرف السكون إلا عند السجود.
ويخوض في تفاصيل المشاعر أثناء الطواف، فيقول:
وكنا نطوف والدمع يفيض، والقلوب معلقة بأستار البيت، تدعو وتبكي وتلهج بذكر من لا يملّ من سؤاله سائل.
اللغة هنا تفيض بالعاطفة، وتنبض بشيء من الذوبان الصوفي، حيث يتجاوز الحج شكله الشعائري إلى تجربة عشق إلهي، وحضور كلي للروح في حضرة المقدس.
كما تحدث عن السعي بين الصفا والمروة، فكتب:
“وفي السعي، نلهث كما لهثت هاجر، نستشعر عطش الروح لا عطش الجسد، ونتأمل في هذا الركض البشري بين الأمل والخوف.”
بهذا التصوير، لا يكتفي ابن بطوطة بإعادة سرد الشعيرة، بل يفتح لنا باب التأويل؛ يجعل من السعي رمزية للبحث الإنساني عن الماء، عن الرجاء، عن الحياة.
وعن أهل مكة، قال:
وأهل مكة أهل فضل وخدمة، قد ألفوا الحجيج، وعرفوا مراتبهم، فيطوفون عليهم بالطعام والسقيا، كأنهم وُكلاء عن الكرم ذاته.
بهذا الشاهد، يعكس صورة حضارية لمكة، ليس فقط كمكان عبادة، بل كمدينة استضافت العالم وعلّمته الأخلاق.
لقد جعل ابن بطوطة من وصفه لمكة محرابًا أدبيًا، ومن رحلته إلى البيت العتيق صلاة مكتوبة. مكة، كما رآها، ليست مجرد محطة في رحلته، بل منعطف وجوديّ تغيّر فيه الإحساس بالزمن والمكان والذات. وفي كتابه
(تحفة النظار)
لم يسرد الحج كحدث، بل كتجربة كونية، تفيض بالصور والمشاعر، وتربط الأرض بالسماء، والرحلة بالحقيقة

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى