فاقد الشيء يعطيه… فلسفة العطاء من رحم العدم
في قلب الوجود الإنساني، تكمن مفارقات تُثير العجب وتستدعي التأمل العميق. لطالما ترددت على ألسنتنا مقولة “فاقد الشيء لا يعطيه” كحكمة مُسلَّم بها، لكن هل توقفنا لحظة لنتدبر أبعادها؟ هل هي حقيقة مطلقة، أم أن هناك وجهًا آخر للعملة يكشف عن فلسفة أعمق للعطاء؟ إنها ليست مجرد فكرة بسيطة، بل هي مفهوم وجودي للعطاء ينبع من عمق الحرمان، ويزداد قوة بتجربة الفقد ذاتها.
أنيس منصور: تحدٍّ فلسفي للمثل الشائع
يُقدم لنا الكاتب الفيلسوف أنيس منصور، في رحلته الفكرية عبر كتابه “حول العالم في 200 يوم”، رؤية ثاقبة تتحدى هذا المثل الشائع ببراعة نادرة. يقول منصور بوضوح تام:
“ليس صحيحا المثل الذي يقول: فاقد الشيء لا يعطيه! فأنا فقدت الطمأنينة ومع ذلك أعطيتها له…! بل الذين يفقدون الأمل هم الذين يتحدثون عنه، والذين يفقدون الحب هم أكثر الناس تغنيا به.. إن الشمس التي هي مصدر الحياة للدنيا كلها، ليست فيها حياة!”
هذه الكلمات ليست مجرد عبارة عابرة، بل هي دعوة صريحة لإعادة تعريف العطاء، وللتأمل في مصادره الخفية. ففاقد الشيء، وفقًا لأنيس منصور، ليس عاجزًا عن العطاء، بل قد يكون هو الأقدر على منحه، ليس من فيض يملكه، بل من وعي عميق بقيمة ما فقده، أو من تجربة شخصية صقلته وبلورته.
يُقدم أنيس منصور تجربته الشخصية كمثال حي: “فأنا فقدت الطمأنينة ومع ذلك أعطيتها له…!”. هذه الجملة تكثف جوهر الفكرة. فالطمأنينة ليست شيئًا ماديًا يمكن فقده أو امتلاكه بسهولة، بل هي حالة شعورية داخلية. وعندما يُعطيها من فقدها، فهو لا يُعطيها من وفرة، بل من فهم عميق لغيابها وألم الفقدان. هذا العطاء قد يكون نابعًا من رغبة في تخفيف معاناة الآخرين، أو من إدراك أن قيمة الشيء تتجلى بوضوح أكبر عند غيابه. إنه عطاءٌ يُولد من رحم المعاناة، ويتغذى على الإدراك الحاد للحاجة.
ويمتد أنيس منصور ليُعمم هذه الفكرة على مشاعر إنسانية أخرى: “بل الذين يفقدون الأمل هم الذين يتحدثون عنه، والذين يفقدون الحب هم أكثر الناس تغنيا به..”. هنا، نرى كيف أن الحرمان قد يُفضي إلى التعبير الأعمق والتقدير الأشد. الشخص الذي ذاق مرارة اليأس قد يصبح أبلغ المتحدثين عن قيمة الأمل، ليس لأنه يعيشه باستمرار، بل لأنه يعرف كم هو ثمين في غيابه. وكذلك فاقد الحب، قد يصبح أكثر الناس قدرة على التغني به ووصفه، لأن القلب الذي جرب الفقد يُدرك الأبعاد الكاملة للعاطفة. هذا يعكس نوعًا من التسامي على الألم؛ حيث يُحوّل الفقد إلى دافع لإعطاء أو تمجيد ما غاب، وكأن العطاء هنا هو شكل من أشكال التعويض الروحي.
ليست رؤية أنيس منصور محصورة في التجربة الإنسانية، بل يرتفع بها إلى مستوى كوني، فيُقدم المثال البليغ: “إن الشمس التي هي مصدر الحياة للدنيا كلها، ليست فيها حياة!”. الشمس تُعطي الحياة، النور، والدفء، وهي الأساس الذي تقوم عليه الحياة على الأرض، لكنها في جوهرها كتلة من النار لا تُعرف الحياة بمعناها البيولوجي فيها. هذا يؤكد أن العطاء الجوهري قد لا ينبع بالضرورة من امتلاك الشيء في ذاته، بل من وظيفته الوجودية ودوره الكوني في منح هذا الشيء للآخرين.
حميدي الثقفي: صور شعرية تُجسّد العطاء من العدم
تتلاقى رؤية أنيس منصور مع الصور الشعرية العميقة التي خطها الشاعر حميدي الثقفي في قصيدته الشهيرة التالية:
“من قال مالك شي من فاقد الشي
ماهو صحيح وفاقد الشي يعطيه
مثل الشجر يعطي لنا بارد الفـي
يعطي الظلال ولاهب القيظ يكويه
مثل القمر يعطي لنا برزخ الضي
يعطي الضيا ومايندرى وش يغطيه
مثل العذاري تسقي النازح المي
تسقي البعيد ونخلهـا ماتسقيـه
مثل الطبيب اللي يداوي عن العي
لكنّ ماهولاقـي احـدٍ يداويـه
عطيتك التحنان من خافقٍ حـي
يعني عطيتك شي انا منحرم فيه
أرويتك ابعضي وانا فاقد الـري
مخفي ظماي وقلبي الحزن طاويه
لي في عيونك لاح مستقبلٍ جـي
حلمٍ بعيد ٍ .. ساهر الليل يرجيه”
***
تقدم لنا القصيدة أعلاه أمثلة ملموسة من الطبيعة والواقع على رؤية (فاقد الشيء يعطيه):
• الشجر والقيظ: “مثل الشجر يعطي لنا بارد الفـي / يعطي الظلال ولاهب القيظ يكويه”.
الشجرة التي تُكوى بحرارة الشمس هي ذاتها من تُعطي الظل الوارف للمسافر. عطاؤها ليس من فيض برودة تملكها، بل من طبيعتها التي تُحوّل المعاناة (حرارة القيظ) إلى راحة للآخرين (الظل). هنا يتجسد العطاء كفعل فطري، يتجاوز الألم الشخصي ليمنح النفع للغير.
• القمر والضياء: “مثل القمر يعطي لنا برزخ الضي / يعطي الضيا ومايندرى وش يغطيه”.
القمر يُرسل لنا ضياءً يهدينا في الظلام، بينما هو ذاته لا يُصدر الضوء بنفسه، بل يعكس نور الشمس. هنا، العطاء يأتي من الوساطة، من القدرة على نقل وإيصال شيء لا يُمتلك أصلاً. إنه رمز للعطاء الذي يكون مجرد قناة لخير أكبر وأصل أبعد.
• العذاري والماء: “مثل العذاري تسقي النازح المي / تسقي البعيد ونخلهـا ماتسقيـه”. (هنا “العذاري” تُشير إلى عين في البحرين نسجت حولها العديد من الأساطير ومنها …. إنها تسقي وتروي النخل البعيد فقط، بينما يظل النخيل المجاور لها عطشانا.
وقد يرمز هذا إلى العطاء الموجه، والذي يتجاوز الذات أو المحيط القريب، ويُقدم للمستحقين بغض النظر عن القرب الجغرافي. إنه نوع من الإيثار المائي، حيث تُعطي العين من محتواها للآخرين حتى ولو كان ذلك على حساب ما هو قريب منها.
• الطبيب والمعالجة: “مثل الطبيب اللي يداوي عن العي / لكنّ ماهولاقـي احـدٍ يداويـه”.
الطبيب الذي يُداوي آلام الآخرين قد يكون هو ذاته مُثقلًا بأوجاع لا يجد من يداويها له. عطاؤه للشفاء لا ينبع من كونه خاليًا من المرض أو الألم، بل من معرفته العميقة بالداء والدواء. هذا العطاء يمثل عطاء المعرفة والخبرة، حيث يُقدم الإنسان من حكمته وفهمه، حتى لو كان يعاني في ذاته.
• الشاعر وعطاء التحنان والري: ثم يختتم الشاعر بتجربته الشخصية الأكثر إيلامًا وجمالًا، لتلامس جوهر الفكرة:
“عطيتك التحنان من خافقٍ حـي / يعني عطيتك شي انا منحرم فيه”.
“أرويتك ابعضي وانا فاقد الـري / مخفي ظماي وقلبي الحزن طاويه”.
هنا يتجلى عمق الفكرة في أبهى صورها. الشاعر يُعطي التحنان وهو محروم منه، يُروي الآخر بينما هو ظمآن. هذا ليس عطاءً من كيس مليء، بل هو عطاءٌ من القلب النازف، عطاءٌ ينبع من الألم الداخلي والاحتياج العميق. إنه عطاء الفقد الذي يُولد أسمى أشكال التعاطف والتفهم. فمن ذاق مرارة الوحدة يُقدر قيمة الألفة، ومن قاس لوعة الحزن يُدرك أهمية الفرح.
فلسفة الفقد والعطاء: معنى أعمق للوجود
إن هذه الأمثلة المتنوعة، من التجربة البشرية المعمقة (أنيس منصور)، إلى الظواهر الطبيعية والخبرات الإنسانية (حميدي الثقفي)، تُقدم دليلًا فلسفيًا قويًا على أن “فاقد الشيء يعطيه” ليست مجرد مقولة معكوسة، بل هي فلسفة عميقة للعطاء النبيل. فالعطاء هنا ليس بالضرورة مرتبطًا بالوفرة المادية، بل هو فعل وجودي يُعيد تعريف الذات في مواجهة النقص. عندما يُعطي فاقد الشيء، فإنه يُعطي من جوهر وجوده، من فهمه العميق للألم والحاجة، ليسد نقصًا في الآخر، وكأنه بذلك يسد جزءًا من نقصه الخاص، ولو بطريقة رمزية.
هذه الفلسفة تُدعى إلى رؤية أعمق للمعاناة والفقد. إنها ليست نهايات، بل قد تكون بدايات جديدة للعطاء الأكثر أصالة وقيمة. فمن رحم العدم، قد يُولد أعمق وأصدق أشكال العطاء، لأن المعطي هنا ليس مجرد مانح، بل هو شاهد على قيمة ما يُعطيه، وقد تكون هذه الشهادة هي العطاء الأثمن على الإطلاق. إنها دعوة للتأمل في قيم أخرى للعطاء، قيم تنبع من الروح والوعي، وتُجعل من النقص دافعًا للامتلاء، ليس بالضرورة بالشيء المفقود، بل بالمعنى والقيمة التي يُضيفها العطاء للحياة.