المقالات

محمد غازي الشيباني… شاعر يعيد خلق العوالم. قراءة في التجربة… قصيدة (روعة الصبح… نموذجا)

منذ أكثر من ثلاثة عقود، وأنا أتابع تجربة الشاعر محمد غازي الشيباني الشعرية. ومنذ بداياته الأولى، كان واضحًا أن صوته مختلف، وأنه لا يكتب الشعر ليستعرض مفرداته أو يزهو بقوافيه، بل لأنه يحمل شيئًا صادقًا يريد أن يقوله. كانت قصائده – حتى في بواكيرها – تشي بموهبة وُلدت قوية، وبتجربة شعرية عرفت كيف تنمو وتكبر، حتى استوت على عودها وأصبحت اليوم واحدة من التجارب اللافتة في الشعر الشعبي.

ما يميز هذه التجربة أنها لم تركن إلى لون واحد، ولم تبقَ أسيرة غرض شعري بعينه، بل تنقلت في أفق واسع:

ففي بعض نصوصه نسمع الغزل الرقيق الذي يقترب من الطهر والنقاء، كما في غنائيتة عن (الورد الطائفي).

وفي قصائد الأخرى نلمس الغواية والفتنة التي يرسمها الشاعر بجرأة فنية وصور آسرة، كما في قصيدة (غواية).

وهناك أيضًا البعد الفلسفي والتأملي الذي يجعل الحب وسيلة لمقاومة الزمن وتجاوز الخيبات، كما في (روعة الصبح) .

ثم نجد في نصوص مثل (غلطة الشوق) صدق القلب حين يهزم الوعي، واعتراف العاشق بأن الحياة بلا حب ليست حياة.

إنها إذن تجربة ناضجة، اتسعت لطبقات شتى، لكنها في كل أحوالها ظلت وفية لجوهر واحد: الصدق الشعوري، والبساطة الممزوجة بالعمق.
وفي السطور التالية وقفة مع قصيدته (روعة الصبح)
***
“روعة الصبح”… قصيدة في انتصار المعنى¡
___
حين نقرأ قصيدة “روعة الصبح”، نجد أنفسنا أمام نص لا يكتفي بالبوح العاطفي، بل يقدّم رؤية للحب كقيمة إنسانية كبرى.

يبدأ الشاعر من الصبح، رمز النقاء والبدايات:
ياروعة الصبح يافرحة غصون النهار
يامستمد الطهاره من صلاة الفجر

الحبيب هنا يتحول إلى فجر جديد، ميلاد يبدد العتمة ويعيد للروح طهارتها. ليست هذه صورة عابرة، بل تأسيس لجو وجداني يقترب من الروحانية.

ثم يمضي النص ليجسد جدلية الانتظار واللقاء:
اشتقتلك شوق يلغي لوعة الانتظار
لين ارتويتك وحدثتك حديث العمر

هنا ينقلنا الشاعر من ألم الفقد والغياب إلى امتلاء اللقاء و”حديث العمر” الذي يختصر كل التجارب. لكن الأجمل أن هذا اللقاء لا يتوقف عند حدود الفرح الشخصي، بل يتحول إلى انتصار على الزمن:
انته بكل المعاني فالحياه انتصار
وانا بكل المعاني فالزمن منتصر

الانحدار… فلسفة الحياة

في بيت بديع يعيد الشاعر تعريف المفاهيم:
(ولاهو ضروري يكون الانحدار انحدار
شوف الثمر لا ستوالك وانحدار المطر)

هنا نكتشف أن “الانحدار” ليس دائمًا سقوطًا أو هزيمة. الثمرة لا تنضج إلا إذا مالت، والمطر لا يروي الأرض إلا بانحداره. هكذا يعلمنا النص أن لحظات الانكسار في حياتنا قد تكون بذورًا للنضج والعطاء.

المطار… الحياة كمكاشفة
***
وتُختتم القصيدة بلمسة واقعية مشبعة بالرمز:
(نضحك وحنا غلابا في ممر المطار
ونكشف لنا أسرار ما تكشف يالولا السفر).

المطار ليس مكانًا للانتظار فقط، بل رمز للحياة كلها: غلبة، مكابدة، ومكاشفة. ورغم التعب، يبقى هناك ضحك واكتشاف. الحب هنا ليس لحظة عاطفية فحسب، بل رحلة مشتركة تكشف لنا أسرار ذواتنا والعالم من حولنا.

يستوقف المتأمل في تجربة الشيباني أن الشاعر يعيد خلق العوالم، ويغير كثيرا من العلاقات بينها، وهذا ديدن الشاعر الأصيل، فهو لا يكتفي بأن يصف الأشياء كما هي، بل يعيد يخلق عوالم جديدة، ويوجد علاقات جديدة بينها. يجعل من المألوف غير مألوف، ويكشف في العادي معنى استثنائيًا. هكذا نراه يجعل من الورد لغةً للسلام، ومن المطر فلسفةً للحياة، ومن الصبح بعثًا، ومن الشوق نعمةً لا غنى عنها.

(ما هو ضروري يكون القلب دايم يسار
كل المزايا الجميلة في يمين البشر).

هذا بيت بليغ يكشف عن قدرة الشاعر على إعادة تشكيل البداهات. فالقلب الذي نعرفه جميعًا في اليسار، ينقله الشاعر إلى “اليمين”، حيث البركة والقوة والصفاء. إنها ليست لعبة لغوية، بل محاولة شعرية لإقامة علاقة جديدة بين الأعضاء والمعاني، بين الجسد والرمز، بين الطبيعة والفكرة. بهذا البيت، يذكّرنا الشاعر أن الحب لا يخضع لقوانين الجغرافيا الجسدية، بل لقوانين المعنى الذي نصنعه نحن.
____
ملاحظات لا بد منها

ورغم عمق نص (روعة الصباح)، وجمالياته، يمكن القول إن بعض الصور مألوفة مثل “حديث العمر” و”شوق يلغي لوعة الانتظار”، وأن الانتقال من الرمزية العالية إلى الواقعية المباشرة في صورة “المطار” قد يراه بعض النقاد خروجًا عن نسق القصيدة. لكن هذه الملاحظات لا تقلل من قيمتها، بل تكشف عن صدقها وعفويتها، وهو ما يميز شعر محمد غازي دومًا.

أخيرا…
قصيدة “روعة الصبح” شهادة شعرية على أن الحب ليس ترفًا يزيّن الحياة، بل هو معناها الأعمق. وفي مجمل تجربة محمد غازي الشيباني نلمح شاعرًا أصيلًا، وُلدت موهبته قوية، ونمت عبر السنوات حتى غدت ناضجة، غنية، وصادقة. شاعر يعرف كيف يصوغ من الورد لغة، ومن الغواية أسطورة، ومن الصبح فلسفة، ومن الشوق نعمة.
إنها تجربة شاعرٍ استوى على عوده، وها هو يقدّم لنا في “روعة الصبح” نصًا يجمع بين العاطفة والفلسفة، بين صفاء الروح وعمق الحياة، ليبقى شعره قريبًا من القلب، بليغًا في أثره، حيًّا في وجدان المتلقي.
______
* قدمت القراءة في أمسية أدبية عن تجربة الشاعر الشيباني يوم الخميس 21 أغسطس نظمتها جمعية الأدب المهنية / سفراء الطائف.

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. احسنت استاذ خلف قراءتك فيها صدق القول وملامسة ماعناه الشاعر بحرفية – دام قلمك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى