في كل عام تتجه أنظار العالم إلى مكة المكرمة حيث تحتضن المملكة العربية السعودية أعظم شعيرة إيمانية على وجه الأرض شعيرة الحج. غير أن ما لا يراه الكثيرون خلف هذا المشهد الروحاني العميق هو ذلك النظام المؤسسي المتكامل الذي يعمل بصمت واتساق ليُنجز هذا الحدث العالمي الاستثنائي بكفاءة تُلهم العالم. فإن تنظيم الحج ليس مجرد موسم مؤقت تُحشد له الجهود بل هو مشروع دولة متكامل يُبنى على مدار العام بمنهجية تجمع بين روحانية العبادة ودقة الإدارة بين قداسة الشعيرة ومفاهيم الجودة والحوكمة والاستدامة
ولأن الخدمة في الحج ليست خدمة تقليدية فقد تبنّت المملكة نموذجًا متقدمًا في التميز المؤسسي يقوم على التكامل بين الجهات وتوزيع الأدوار وتطبيق أعلى معايير الأداء. فكل نقطة تلامس رحلة الحاج من تصريحه الأول حتى عودته لبلاده تمر بمنظومة مترابطة من الجهات الحكومية والخدمية والأمنية والصحية تعمل ضمن نموذج تشغيلي قائم على التخطيط المسبق وإدارة المشاريع وضبط الجودة في أدق التفاصيل. تجربة الحاج أصبحت اليوم تمر عبر أكثر من مئتي نقطة اتصال تم تحليلها وإعادة تصميمها ضمن برنامج خدمة ضيوف الرحمن وهو أحد برامج تحقيق الرؤية الذي يُعد ترجمة عملية لمفهوم الاستدامة في شعيرة الحج
وقد استطاعت المملكة أن تُحوّل تحديات الزمان والمكان وكثافة الحشود إلى فرص تطوير مستمر من خلال استثمار البنية التحتية الذكية والنقل الترددي وقطار المشاعر والتحول الرقمي والمنصات الذكية التي أسهمت في اختصار الوقت والجهد ورفع كفاءة الخدمات والحد من التكدس والازدحام. كما أصبح لقياس الأداء ورضا الحجاج بعدٌ مؤسسي واضح عبر دور المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة الذي يراقب الخدمات بشكل حي ويجمع بيانات التقييم من الحجاج أنفسهم بل ويبتكر أدوات نوعية مثل “الحاج الخفي” لرصد مستوى الجودة من الميدان بما يعزز الشفافية ويوجّه التحسين بناءً على تجربة المستخدم لا توقعات المديرين
وفي قلب هذا النظام تقف إدارة المشاريع كقوة محركة تُنسق الجهود وتضبط الجداول الزمنية وتستبق المخاطر. وزارة الحج والعمرة أنشأت مكتبًا لإدارة المشاريع يخطط لمئات العمليات الموسمية مع أكثر من خمسين جهة وتُنفذ الفرضيات الميدانية قبيل الموسم لاختبار الجاهزية وإغلاق الفجوات المحتملة. كما تُدار كل المبادرات الخدمية والتنظيمية — من التصاريح إلى توزيع السكن والتفويج — ضمن نماذج مشاريع مؤسسية بمؤشرات أداء ومخرجات مقننة بما يعكس نضجًا إداريًا واحترافية وطنية تليق بحجم الشعيرة وأهمية الزمان والمكان.
هذا التكامل المؤسسي ما كان ليُثمر لولا الإيمان العميق بأن التميز ليس خيارًا بل واجب أمام الله وأمام ضيوف بيته. لذلك نجد أن الجهات المشاركة تسعى لاعتماد معايير الجودة العالمية مثل ISO وEFQM وتنافس في جوائز التميز الوطني مثل جائزة الملك عبدالعزيز للجودة، ليس بهدف التتويج فقط بل لغرس ثقافة التحسين المستمر والانضباط المؤسسي وتحويل الخدمة الموسمية إلى ممارسة مستدامة ترتقي عامًا بعد عام
ورغم عظمة الجهد التنظيمي إلا أن ما يميز التجربة السعودية هو قدرتها على الموازنة بين الدقة الإدارية وجلال المشهد الإيماني. فالحاج مهما كانت خلفيته أو لغته لا يشعر أنه يتلقى خدمة مبرمجة بل يُحتفى به بلغة الرفق والتكريم ويُرشد بلغة قلبية تتجاوز التعليمات. وهذا التوازن بين النظام والسكينة بين الخدمة والانسيابية لا يُصنع إلا حين تُدار المؤسسات بعقل الدولة وقلب الإيمان.
وهكذا أصبحت شعيرة الحج نموذجًا معاصرًا يُدرّس في الإدارة الحكومية في كيفية تحويل العبادة إلى نظام والخدمة إلى رسالة والتميز إلى أسلوب حياة مؤسسية. هذا هو الحج كما تُديره المملكة: مشروع استدامة ورحلة تميز وقصة لا تنتهي فصولها لأنها تُكتب كل عام بحروف من إخلاص ونيّة لا يراها إلا الله.

2
مقال دقيق ورائع يحكي الحالة السعودية وكيف تعاملت مع مفهوم( الحج) وتمكنت من المؤامة بين الحشود الكبيرة والزمان والمكان الموحد لاداء النسك معرجودة الهدمات وروحانية المكان… شكرا للكاتبة
شكرا على هذا المقال المتميز الذي يشعرك بالفخر والاحترام لهذه الشعيرة المباركة والجهود المبذولة لأداء هذه الفريضة بكل يسر وسهولة التي لولا فضل الله علينا في اختيارنا نحن السعوديين واختيار هذه الدولة المباركة واصطفائنا لخدمة حجاج بيت الله الحرام من بين هذه الأمم لما تحقق هذا الإنجاز نسأل الله أن يديم علينا هذه الخيرات والنعم في دولتنا المباركة وأن يطيل في عمر حكامنا ويعينهم ويرزقهم البطانة الصالحة وينصرنا على أعدائنا من الحاقدين الحاسدين.