
أعلام في حديث الذاكرة (2)
“ثنائيةُ (الحُب والوفاء) كانتْ مُحرَّضًا للقلوبِ قبل الأقلامِ، لحفظٍ بعضٍ من السِّيَرِ النابضةِ لهؤلاء الأعلام…”
بهذه الروح استكملتُ رحلتي في كتاب أعلام في حديث الذاكرة الصادر عام 1440هـ، حيث توقفتُ عند شخصياتٍ نادرة، لم تصنع المجد لنفسها فحسب، بل كانت لبِناتٍ صلبة في بناء مؤسسات الدولة، ومنها شخصية اليوم: معالي الدكتور بندر بن حمزة حجار.
نصيحة من رجل دولة.. كانت بذرة وادي مكة للتقنية
في عام 1433هـ، حين صدر الأمر السامي بالموافقة على تأسيس شركة وادي مكة للتقنية، تلقيت اتصالًا من رجل لم أكن أعرفه بعد، قال فيه بنبرة الواثق:
“يا دكتور بكري، مبارك عليكم الشركة، وأتمنى أن تركز على المجال التقني، والاستثمار فيه، وألا تتحول كغيرها إلى مكتب عقار!”
لم يكن ذلك الاتصال عابرًا، بل كان بذرة رؤية، امتدت جذورها في قلب جامعة أم القرى، وقطفت ثمارها بعد أعوام، عندما افتتح سمو أمير المنطقة مبنى الشركات الناشئة، الذي ضمّ آنذاك 16 شركة قائمة على براءات اختراع وأبحاث وأفكار مبتكرة.
كان معالي الدكتور بندر حاضرًا، لا ليرى فحسب، بل ليذكّر سمو الأمير قائلاً:
“قلتُ لمدير الجامعة قبل سنوات: ركزوا على التقنية، فوعدني، وها هي جامعة أم القرى تفي بوعدها وتقدم نموذجاً متميزاً.”
الوزير.. الأكاديمي.. الإنسان
معالي الدكتور بندر بن حمزة حجار، وزير الحجّ السابق، والمكلف سابقًا بوزارة الإعلام، لم يكن رجل منصب، بل كان رجل دولة من طراز نادر. أكاديمي عريق، رأس مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، وحرر مجلة “الأسواق والأموال”، وتولى وكالة كلية الاقتصاد، وقبل كل ذلك وبعده، ظل إنسانًا نبيلاً متواضعًا.
هو الذي شغل مواقع متعددة: عضو مجلس الشورى، فرئيس لجنة الشؤون الخارجية فيه، فنائب للرئيس، ثم مؤسسًا ورئيسًا للجنة الوطنية لحقوق الإنسان، ورئيسًا للمجلس الوطني لمراقبة الانتخابات، ثم رئيسًا للبنك الإسلامي للتنمية.
بناءٌ من نوع آخر.. عنوانه الإخلاص
في كل محطة، كان يحمل روح البنّاء، لا يبدأ من حيث انتهى الآخرون، بل يبدأ من حيث يجب أن تُبنى الأسس. لم يكن مولعًا بالتوسع، بل مهتمًا بترسيخ الجذور وتمتين البنى التحتية.
ولعله – كما تقول بعض التراجم – يحمل في اسمه ما يشي بسيرته، فأسرة “آل الحجار” التي ينتمي إليها تُنسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأول من ورد المدينة من هذه الأسرة كان يعمل في عمارة المسجد النبوي الشريف بالحجارة، فقيل له: “الحجّار”.. يا له من نسبٍ في البناء عريق، مرتبطٍ بمسجد خير خلق الله.
أدبُ المسؤول.. وخلقُ المتواضع
ما لا يُنسى في معالي الدكتور بندر، أنه كان مثالاً في الأدب الجم، والتقدير الراقي. إذا احتاج إلى أحد من منسوبي الجامعة، لم يُصدر خطابًا رسميًا مباشرة، بل يتصل بي أولًا ويسأل بكل احترام:
“هل ذهاب فلان يُربك عملاً ما في الجامعة؟ وهل هناك من يسدّ مكانه؟”
وكان يكرر دائمًا: “لا أريد إصلاح مكان بإفساد آخر.”
وذات مرة قال لي ممازحًا:
“استحييت منك يا دكتور، لكثرة ما طلبت، وأنت لا تقول لا!”
فقلت له مبتسمًا:
“هل تريدني أن أقول لا؟”
قال: “نعم”
فأجبته: “لا! لن أقول لك: لا.”
الرجل الذي عرفناه جميعًا
ليس هذا مجرد سردٍ لذكريات، بل هو اعتراف بفضل رجلٍ اجتمع فيه الإخلاص والعقل والبصيرة. رجلٌ ترك في كل مكان أثرًا، وفي كل مهمة بصمة، لا يعرف الحقد، ولا ينفعل بالغضب، كما وصفه عنترة بن شداد:
لا يَحمِلُ الحِقدَ من تَعلو بِهِ الرُتَبُ
وَلا ينَالُ العُلا من طَبعُهُ الغَضَبُ
رحم الله من مضى من أترابه، وبارك في عمره وعطائه، فشهادتي فيه هي شهادة من عاشره، وعرف معدنه، وأشهدُ أنني ما رأيتُ في ساحات العمل العام، رجلًا يحمل هذه الرؤية، ويعيش بهذا القدر من التواضع والوفاء والبناء.