في كل جيل، تظهر عقول سعودية تثبت أن المملكة لا تكتفي باستيراد المعرفة، بل تصوغها وتعيد تقديمها للعالم بروحها الخاصة. من بين هؤلاء، يسطع اسم الدكتور عبدالرحمن محمد العمودي، الحاصل على درجة الماجستير والدكتوراه في الهندسة الكهربائية من Georgia Tech، التي تُصنف ضمن أفضل 30 جامعة على مستوى العالم بحسب تصنيف QS 2025، والرابعة في الهندسة الكهربائية حسب تصنيف U.S. News.
في بيئات كهذه، لا تُمنح الشهادات لمن يحفظ، بل لمن يُفكّر. هناك، حيث تُختبر الفكرة قبل أن تُمنح الثقة، وحيث تُمارس الخوارزميات كما تُختبر الأجنحة في نفق الرياح، لم يكن عبدالرحمن مجرد باحث، بل كان صانعًا لنماذج توقّع، وأدوات تحليل، وخوارزميات استشعار، تتحدث بلغة السوق، وتخاطب الحاجة قبل أن تُطلب، وتُطوّع الذكاء ليعمل على الأرض لا أن يبقى في النظريات.
يُعد د. عبدالرحمن، أحد الخبراء البارزين في مجالات الاتصالات اللاسلكية، والتعلم الآلي، ومعالجة الإشارات. تركز أبحاثه على تطبيق تقنيات التعلم العميق المتقدمة في التنبؤ بسلوك المستخدمين داخل الشبكات اللاسلكية، وتحليل البيانات عند أطراف الشبكة، وتحقيق كفاءة أعلى في نقل البيانات. من أبرز مساهماته تطوير نموذج تنبؤي باستخدام الشبكات العصبية لتوقّع سلوك المستخدمين قبل حدوثه، مما يتيح لمزودي الخدمة تحسين التغطية وتقليل الانقطاعات، وتصميم خوارزمية ذكية لتحليل أنماط الاستخدام رغم التشويش، مما يسهم في تحسين تجربة المستخدم بشكل مخصص وذكي. كما طوّر تقنية لضغط البيانات دون التأثير على دقتها، بما يمكّن من تسريع نقل البيانات بكفاءة عالية، خصوصًا في بيئات الحوسبة الطرفية. وقد نُشرت أبحاثه في مؤتمرات IEEE، ونال عنها جوائز ومنحًا بحثية مرموقة، منها منحة Intel في مجال Edge ML. ما شاء الله تبارك الرحمن، نسأل الله أن يبارك له في علمه وعمله، ويزيده من فضله، وينفع به وطنه وأمته.
فلله الحمد والمنة على برنامج الابتعاث الذي فتح له باب المعرفة، والشكر موصول لجامعته التي وثقت فيه، وتابعته إلى أن عاد اليوم لا ليُصنّف، بل ليُمكّن. لا ليُكرَّم، بل ليُنتج. فقد سطر سيرةً يرفع بها رأسه، ويرفع بها كل سعودي رأسه. والآن… جاء دور من ابتعثه: أن يمنحه البيئة التي تليق به، والبنية التحتية التي تفتح له الطريق. لأن من يحمل عقلًا كهذا، ويُقابل بجمود بيئة لا تُشبهه… فكأنك تضع سيارة فراري في مرآب ترابي، بلا إطارات… ثم تسأل: لماذا لا تنطلق؟
ولأن ما بعد البرمجة لم يعد زمنًا للكود فقط، بل للوعي البنائي، فإن الهندسة اليوم لم تعد حقلًا تقنيًا جامدًا، بل أصبحت الطيف الحقيقي الذي يُشكل الذكاء الاصطناعي ويُفعّله. وكلما زاد “المقدار الهندسي” داخل النظام الذكي، زادت فعاليته واستقلاله وقيمته. إنها علاقة طردية واضحة: كلما اقترب الذكاء من البنية الهندسية، كلما اقترب من النضج. وكلما انغلق داخل الكود وحده، تقلص تأثيره.
وفي مقابل ذلك، نرى علاقة عكسية تتكشف تدريجيًا: فكلما تقدم الذكاء الاصطناعي وتعلّم أن يُبرمج نفسه، كلما تقلّص الاعتماد على البرمجة التقليدية، وكلما تراجع الطلب على خريجي علوم الحاسب ممن لا يملكون تصورًا منظوميًا أو فهمًا هيكليًا للنظام الذي يعملون عليه. ليس الذكاء اليوم في من يكتب الكود… بل في من يعرف لماذا يُكتب، وأين يُزرع، وكيف يُخدم به قرار أو يُجنّب به خطر.
هذا الجسد الهندسي لا يعمل بعضو واحد، ولا يتحرك بتعليمات منفصلة، بل يتفاعل بتكامل دقيق، يُشبه تناغم الجسم البشري، الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وعلّمه كيف يستجيب، ويصحح، ويتوازن دون أن ينتظر أمرًا.
المهندس الكهربائي هو من يصمّم أعصاب النظام، يربط الإشارات، ويفعّل الاستجابات، ويمنح الذكاء قدرته على الشعور بالمتغيرات قبل أن تتحول إلى أزمات.
المهندس الميكانيكي هو من يمدّ النظام بعضلاته، يضبط التوازن، ويُهندس الحركة، ويجعل الروبوتات والطائرات والمركبات تستجيب بثقة، لا بعشوائية.
المهندس الصناعي هو من يُدير مركز القرار، يجمع البيانات، يُفاضل بين البدائل، ويأخذ القرار في أجزاء من الثانية، بناءً على سلسلة متشابكة من النمذجة، والإحصاء، والاحتمالات، والمحاكاة.
المهندس الكيميائي هو من يتحكم في كيمياء النظام، يُنظم التفاعلات الذكية، ويُوازن الانبعاثات، ويُهندس العمليات البيئية والحرارية.
المهندس المدني هو من يبني العظام الرقمية، يصمّم المدن لتكون ذكية، والهياكل لتراقب نفسها، والجسور لتطلب صيانة قبل أن تتكسر.
مهندس الطيران هو من يُنظّم حركة النظام في فضاء مفتوح، يمنح الأنظمة قدرة على المناورة، والثبات، والتعديل اللحظي للضغط، والسرعة، والاتجاه.
المهندس النووي هو من يتحكم في الطاقة الدقيقة، يراقب الأمان في كل تفصيلة، ويمنع الانفجار قبل أن يولد.
والمهندس الحراري هو من يوزّع الطاقة في الجسد الصناعي، كما تفعل الدورة الدموية، يعرف متى يُسخّن، ومتى يُبرد، ويمنع النظام من الاحتراق أو الانهيار.
وإننا حين نتأمل هذا التفاعل الهندسي المتكامل، نجد أنفسنا أمام مشهد يبعث على الانبهار… ثم يقودنا إلى الخشوع. لأن هذا الاتساق، وهذه الاستجابة اللحظية، قد سبقنا إليها خَلقٌ من صنع الله تعالى: جسم الإنسان.
فعندما نخاف، لا نُبرمج قلوبنا لتتسارع، بل تتحرك الأعصاب، وتنقبض العضلات، ويصدر القرار في لحظة لا نشعر بها.
وحين نفرح، لا نكتب أمرًا لتبتسم ملامحنا، بل ينبض الشعور، وتنبسط النفس.
وحين نتحرك، لا نحتاج كودًا لكل خطوة… بل نمشي لأن الجسد قد فُطر على أن يعرف، ويستجيب، ويوازن نفسه.
تلك النعم — من الخوف إلى الطمأنينة، من السكون إلى الحركة، من التوازن إلى القرار — كلها آيات عظيمة لا يُدركها إلا من تفكر في حكمة الخلق.
وما تفعله الهندسة، قديمًا وحديثًا، في زمن الذكاء الاصطناعي، ليس تقليدًا للخلق، بل محاولة لفهم هذا الانسجام الرباني العظيم، واستلهام شيء من حكمته في تصميم أنظمة تخدم الإنسان، وتسبقه في بعض احتياجاته، وتحميه من بعض أخطائه.
فالمهندس حين يُصمّم نظامًا يتخذ القرار في لحظة، أو يُوازن نفسه في حالة خطر، أو يُصحّح مساره دون تدخل، لا يُجاري الطبيعة… بل يتأملها، يتعلّم منها، ويُسخّر أدواته ليكون، كما أراده الله، معمّرًا في الأرض.
ولأننا لا نكتب من باب المناشدة، بل من باب البصيرة، فإن التاريخ يقدّم لنا مشهدًا حيًّا يُلخّص ما يمكن أن تفعله النظرة الضيقة في تأخير أمة بأكملها. لقد تأخر العرب في تبنّي الطباعة حين اخترعها غوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر، لا لأنهم عاجزون، بل لأنهم اكتفوا بما لديهم من أدوات، وتهيبوا من كسر النمط. بين أوروبا التي كانت تطبع الإنجيل على كل ورقة، والعالم العربي الذي ظل ينسخ الكتب يدويًا، كانت النتيجة فجوة معرفية امتدت قرونًا، وأفلتت من بين أيدينا لحظةٌ كان يمكن أن تغيّر التاريخ.
واليوم، حين يُقصى المهندس لأن تخصصه لا يطابق الجدول، أو لأن اسمه لا يحمل “كلمة الحاسب”، فإننا لا نخسر موظفًا… بل نفقد فرصة لبناء نظام، وتأخيرًا جديدًا في زمن لا ينتظر.
وحتى على المستوى الرسمي، فإن “التصنيف السعودي الموحد للمستويات والتخصصات التعليمية (1441هـ – 2020م)”، الذي أشرفت عليه وزارة التعليم بمشاركة 12 جهة حكومية، منها هيئة المهندسين، وهيئة تقويم التعليم، ومركز المعلومات الوطني، وهيئة التخصصات الصحية، لا يُفرّق في جوهر الكفاءة التقنية بين تخصصات الهندسة الكهربائية، والصناعية، والميكانيكية، والكيميائية، والمدنية، وهندسة الحاسب. بل يضعها جميعًا ضمن إطار موحّد في مجال “الهندسة”، ويشير بوضوح إلى طبيعة المهام التي تتداخل فيها النمذجة، والتحكم، والبرمجة، وتحليل البيانات، مما يعكس اعترافًا مؤسسيًا أن “الطيف” المهني للتقنية الحديثة لا يُختصر في عنوان تخصص، بل في أثر العقل القائم عليه.
ومن هنا نُدرك أن التحدي لم يعد في تعليم الآلة، بل في تمكين من يُفكّر بها. لم يعد الذكاء الاصطناعي سؤالًا عن التخصص، بل عن العقل الذي يصنعه. وفي هذا التحول، لن يبقى التميّز لمن يُشغّل الذكاء، بل لمن يُهندس منطقه، يُعلّمه أن يُفكّر، ويمنعه من أن يُخطئ.
*حين تُفكّر الهندسة… يتقدّم الذكاء*.