تقوم الحضارات على مقومات، من أهمها التاريخ الزمني الذي تُعدّ من خلاله الأيام والشهور، وتُؤرَّخ به الوقائع والحوادث. ولهذا كان لكل حضارة تقويمٌ يختص بشؤونها الحياتية وأمورها الدنيوية والعبادية. وهو عَدٌّ زمني تُوزَّع فيه السنة إلى شهورٍ وأسابيع وأيام، لحساب التواريخ وتنظيمها لأغراض اجتماعية ودينية وزراعية وغيرها، ليُضفي على الزمان قيمةً معلومة. ويُعد التقويم جزءًا لا ينفك عن بناء الدولة الوطنية والحضارة المدنية معًا، كما هو الحال في حضارات المصريين القدماء والمكسيكيين والرومان وغيرهم.
ويشكّل التقويم الهجري نقطة ارتكاز في بناء الدولة الوطنية، لأنه يُعد أحد مقوماتها المهمة. فالعرب كانوا يعرفون التقويم ويكتبون به، ولكن لم يكن لهم تقويمٌ خاصٌ ذو أسسٍ واضحة، كما لدى الأمم المجاورة التي استخدمت تقاويم تعتمد على أحداث تاريخية كمولد المسيح عليه السلام، وغير ذلك. ومع ذلك، كانت للعرب ممارسة تقويمية خاصة، من خلال اعتمادهم على الأشهر القمرية لا الشمسية كما في غيرهم من التقاويم، واعتمادهم عليها في تحديد الولادات والوفيات والوقائع، كولادة النبي محمد ﷺ التي وردت في بعض الروايات أنها كانت في ربيع الأول، وفي أخرى في رمضان. ويُذكر أن كلاب بن مرة جمع الناس على الأشهر القمرية التي سمّاها النبي إبراهيم عليه السلام، بحسب بعض الروايات.
وقد ارتبط التقويم القمري بالطقوس العبادية والاجتماعية والتجارية والزراعية، وكان لكل شهر اسمٌ وسببٌ معروف، كما هو الحال في الأشهر القبطية والميلادية. ولم يطرأ على هذا التقويم ما طرأ على غيره من التعديل والتبديل والزيادة والنقصان، وهو ما اعتبره بعض الباحثين وجهًا من أوجه تعقيده لا تيسيره.
وحين تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة، وتفرّغ لبناء مؤسسات الدولة الوطنية والمجتمع المدني المتحضر، جعل للعرب تقويمهم الخاص الذي يُعبّر عن هويتهم. فجعله يبدأ بالهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، لكونها الحدث التأسيسي الأبرز في بناء الدولة والمجتمع، بعد أن حُوصر المسلمون وطُردوا من مكة، فجمعهم الله في يثرب التي سُمّيت لاحقًا “المدينة”، تأسيسًا لدولة مدنية.
ويبدأ هذا التقويم بشهر الله المحرّم، وينتهي بشهر ذي الحجة الذي يختتم بأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، وأحد الأشهر الحُرُم. فاعتماد التقويم الهجري يُعبّر عن تمسّك الدولة بجذورها كشعار وهوية عليا، في مواجهة الشعارات والهويات والثقافات المحيطة، ويُظهر استقلالها الثقافي والفكري، مما يُعزّز سيادة الدولة الوطنية على هويتها وتاريخها. وهو أمر اجتهادي وعمل بشري عظيم، يقوم على مصلحة الناس وهوية المجتمع، لا علاقة له بالتعبّد الديني الإسلامي.
فالتقويم الهجري ليس مجرد نظام لعدّ الأيام، بل أداة فاعلة في بناء الدولة الوطنية ذات الهوية المستقلة. وقد كان فكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وضع هذا التاريخ العربي الهجري، إبداعيًا في سياق بناء الدولة والمجتمع المتحضّر، كرمز للحضارة العربية، ودليل على انفتاح الإسلام على العالم، ومحاكاته للآخر فيما يعود بالنفع العام. كما أنه يُعدّ وسيلة للتوسع المستقبلي في علم الفلك، ومعرفة عدّ الأيام والشهور، ومواقيت الفصول والعبادات والأعمال، لأمة كانت أمّية لا تقرأ ولا تكتب.
وفي زمن العولمة وتواصل الحضارات والثقافات، والمشاركة العالمية في التجارة والاستثمار والسياحة وتبادل المصالح، أدركت المملكة العربية السعودية -منذ تأسيسها حتى توحيدها- أهمية هذا التقويم، فكان حاضرًا في هويتها وثقافتها وأنظمتها. وقد ظل شاهدًا على تمسّكها بأصالتها، في الوقت الذي راعت فيه معاصرتها من خلال رؤية المملكة 2030 التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-، حيث راعت التوازن بين التقويمين الهجري والميلادي، ومجالات استخدامهما بما يُحقق النفع العام والمصالح المشتركة.
إلى اللقاء
• عضو التوجيه والإرشاد بالحرمين الشريفين سابقًا