المقالات

«البعبضة» الفكرية: خيوطٌ ناعمة تخنق التنوّع د. عبدالعزيز حسين الصويغ

حين يختار داعيةٌ أن يقف على تاءٍ مربوطة أو ياءٍ مقصورة، متناسياً سياق الوحي ومقاصده، فإنه لا يُهين البلاغة وحسب، بل يخنق فضاء الاختلاف.

قبل سنوات، وفي خضم سجالات فكرية لا تخلو من حدّة، أطلقتُ مصطلحًا حاولتُ من خلاله تشريح آفةٍ خطيرة تتسلل إلى خطابنا الديني والثقافي، لتُفرغه من مضمونه، وتحوِّل النقاش إلى معارك هامشية تُمارَس فيها “البعبضة الفكرية” (بمعنى تحوير الكلمات عن مقاصدها)، فسمّيتُها «التبعيض» أو «البعبضة»!! وهو انتقاءٌ محسوب، يبدو في هيئة عتابٍ لغوي أو نصيحةٍ وعظيّة، لكنه يُقصي من خالفه بصمتٍ آمن، فلا يُشهِر سيف التكفير بل يحرّك خيوط العقول من وراء ستار.

هذا الانتقاء الخفيّ ليس جديداً؛ فقد رصدت دراساتٌ حديثة كيف يوظّف تنظيم داعش الآيات في سياقات مجتزأة لإضفاء الشرعية على مشروعه القتالي (islamist-movements.com)، وحذّر باحثون من أنّ «ثقافة الإقصاء» هي العدوّ الأعمق للديمقراطية في مجتمعاتنا (al-watan.com). لكنّ «التبعيض» أخطر؛ لأنه لا يرفع شعاراتٍ صادمة، بل يعزف على أوتار «المعقول» و«المقبول»، فيتسلّل إلى مناهج التعليم وخطاب الإعلام ومواعظ المنابر من دون مقاومة تُذكر.

من هنا جاءت فكرة كتابي الجديد «التبعيض: الجذور، الآليات، المواجهة»، الذي أعدّه للصدور قريباً إن شاء الله. يكشف تفاصيل هذه الظاهرة التي رأيتُها أخطرَ من “الغلو” وأخبثَ من “التكفير”، لأنها لا تقتلُ بالفأس، بل بالخيط الحريري!

• ما التبعيض؟

هو تحويلُ النقاش من صلب الأفكار إلى هامش التفاصيل، ومن مقاصد النصوص إلى شكلياتها، بحجة “الدقة” و”الحرص”، لكن الهدف الحقيقي هو الإلهاءُ عن الجوهر أو تكريسُ الإقصاء بطريقة مُموَّهة.
التبعيض هو أن يتلو أحدُهم آيةً عظيمة مثل:
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}
ثم ينصرفُ بك إلى جدلٍ حول كتابة اسم “عيسى” بألف مقصورة (ى) لا ممدودة (ا)! وكأن المعركة في الحرف، لا في المعنى الذي يهزُّ الكون!

• لماذا التبعيض أخطر؟

لأنه:
• يُقدَّم بلغة “المعقول”: فهو لا يصرخ بتكفيرك، بل يهمس بأنك “جاهل” أو “غير دقيق”، فيكسب شرعيةً حتى لدى المعتدلين.
• يُحوِّل الدين إلى فولكلور: يصبح الإيمانُ مسابقةً في الهجاء أو النحو، لا تحريرًا للضمير.
• يخنق التنوّع: فكلُّ من يخالفك في التفصيلة – حتى لو كان على صواب في الأصل – يُوصم بالجهل أو “الانزياح”.

 

• التبعيض ليس اجتهادًا… بل “بعبضة”!

هنا قد أكون حادًّا بعض الشيء: بعضُ أنصار التبعيض لا يختلفون عن مَنْ يلعبون “البعبضة” (الكلمة الشعبية التي تعني التحايل بالكلمات).
هم يحرّفون المفاهيم، ويختزلون السجال إلى حيثيات لغوية أو فقهية ضيقة، ليس لأنهم حريصون على العلم، بل لأنهم يخشون المواجهة الصريحة مع الأفكار.
لذا أرى أن التبعيض أخطر من التكفير الصريح، لأنه لا يحمل سيفًا، بل يخنق العقلَ بخيوط “الحرص على الدقة” و”الصواب”، بينما يُقصي كلَّ من يخالفه في التفاصيل.
هو ليس خطأً فقهيًا، بل ثقافة إقصاء متقنة.

• الكتاب القادم: من التشخيص إلى المواجهة

في كتابي هذا، لن أكتفي بكشف “التبعيض”، بل سأطرح سؤالًا جريئًا:
كيف نُعيدُ للخطاب الديني والثقافي روحَه دون الوقوع في فخاخ الجزئيات؟
سأستعرض أمثلةً تاريخيةً ومعاصرةً، من جدل المتقدّمين حول “حروف المعاني”، إلى سجالات السوشيال ميديا اليوم، حيث تُختزل قضايا الأمة إلى مناظرات في “المفردات”.

• ختامًا:

التبعيضُ مرضٌ متقدّم في جسد خطابنا، والعلاجُ يبدأ بالاعتراف به.
فهل نستطيع أن نناقش “العدل” دون أن نتحوّل إلى نقاش حول “تعريف العدل في المعجم”؟
هل نستطيع أن نقرأ القرآن دون أن نصطدم بفخاخ “الألف والياء”؟

#نافذة:

الكتاب ليس هجومًا على العلم أو اللغة، بل هو دفاع عن جوهر الدين والثقافة أمام آليات التشويه الناعمة.
هذه معركتي في الكتاب الجديد… فهل نستعد لها معًا؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى