المقالات

أولًا الداخل… ثم يُشرق الضوء

مقدمة:
لا تغضب حين يقول أحدهم: “بلدي أولًا”.
اغضب فقط حين يرفع هذا الشعار بمنطق التعالي، وتصحبه نبرة فظة تستفز الآخرين بدل أن تلهمهم.
فمن أحبّ وطنه بصدق، لا ينازع غيره في حبّ أوطانهم. وليس في “السعودية أولًا” أو “مصر أولًا” أي غضاضة. بل في ذلك حكمة عظيمة:
 لا تكون قويًا في العالم إن لم تكن قويًا في الداخل.
 ولا تُقيّم لك الأمم وزنًا إذا كانت جبهتك رخوة، وبنيانك متهالكًا، وثقتك بنفسك مفقودة.
السعودية أولًا: المعادلة الذهبية
منذ سنوات، كتبتُ مقالة اختصرت فيها رؤيتي للعلاقات الدولية، تحت عنوان #السعودية_أولًا. وقلت –ولا أزال أؤمن– أن هناك معادلة ذهبية يجب أن تُوضع فوق كل اعتبار آخر، وهي:
 أن تتعامل المملكة مع قضاياها ومصالحها الداخلية والخارجية وكأن لا قضايا سواها،
 وأن تتعامل مع القضايا الإقليمية والدولية، وكأن لا قضايا داخلية تقيّدها.
هذه ليست أنانية، بل منطق البقاء.
هي ليست انعزالًا، بل تأسيسًا لما هو أعظم.

“#السعودية_أولًا” تعني:
• أن نُحكم لُحمة الداخل.
• أن نرتقي فوق التصنيفات القبلية أو المذهبية أو المناطقية.
• أن نضع المواطن السعودي أولًا في الرعاية والتنمية، دون إغفال حقوق المقيمين والضيوف.
هي ليست تعصبًا، بل وصية العقل: لا تلتزم مع الغير قبل أن تلتزم مع نفسك.
ولا تُسهم في بناء القضايا الكبرى قبل أن تتقن هندسة بيتك الصغير.
وقد شبّهتها بما أطلقه الشاعر والرئيس السنغالي ليوبولد سنغور في مصطلح “الخصوصية الزنجية”:
أن تعتز بجذورك وتميّزك، لا لتغلق بابك عن العالم، بل لتفتح نافذتك بثقة.
وُلِدتُ سعوديًا… كبرتُ سعوديًا… أموتُ سعوديًا… ولي الفخر.

#”ومصر أولًا… لماذا لا”؟
كثيرًا ما يرفع أشقاؤنا في مصر شعار “مصر أولًا”. ولم أجد يومًا في هذا الشعار حرجًا. بل وجدت فيه نفس المنطق الذي نؤمن به: الداخل أولًا… ثم يشرق الضوء.
لكن الاعتراض المشروع لا يكون على “الشعار”، بل على الطريقة التي يُعرض بها أحيانًا:
حين يتحول إلى صيغة استفزازية… أو يتضمن تقليلًا من شأن الغير.
سمعتُ شعار “مصر أولًا” يُردد في شوارع الإسكندرية وأزقة خان الخليلي في الستينات، ولم أشعر قط أنه يُهين هويتي. بل رأيتُه تعبيرًا صحيًّا عن تمسكٍ يستحق الاحترام.
لكنّ الطفل الذي كنته لاحظَ الفرق:
* حين يُرفع الشعار بنبرةِ حبٍ وتحدٍ للبناء (كصرخة بناء السد) – فهو إلهامٌ.
* وحين يُرفع بنبرةِ استعلاءٍ أو تقليلٍ من شأن الشقيق (كما يحدث أحيانًا اليوم) – فهو جرحٌ.
الخلاصة: الاعتراض ليس على “الأولى” بل على “الطريقة”. مصر القوية هي ركن الأمة، ومصر الضعيفة هي جرحٌ في خاصرة العرب.
في كل الأحوال، لا بد أن نفهم:
لا وطن يُعين غيره وهو ضعيف، ولا شعب ينهض بأمة وهو عاجز عن النهوض بنفسه.
السعودية ومصر: أخوّة لا تموت
ما بين “السعودية أولًا” و”مصر أولًا”، لا خصومة ولا تنافس. بل التقاء على الحقيقة الواحدة: أن بناء الداخل هو بوابة التأثير في الخارج. ولهذا، كانت العلاقة بين المملكة ومصر علاقة لا تقاس فقط بزيارات القادة أو الاتفاقيات، بل بتاريخ طويل من الأخوّة والدعم المتبادل.
لقد أثبت التاريخ أن “الأولوية الوطنية” لم تعزلنا، بل قرّبتنا من بعضنا:
• في العدوان الثلاثي 1956، أذكر شرح والدي (رحمه الله) لي كيف أن الملك سعود وقف بكل ما يملك دفاعًا عن مصر. كانت “السعودية أولًا” تعني يومها: أن أدفع ثمن حرية شقيقي. ووقفت المملكة بكل قوتها السياسية والمالية مع مصر، بل انضم أمراء آل سعود إلى معسكرات التدريب دفاعًا عنها.
• في 1967 رأيت النكسة، وفي رمضان/أكتوبر 1973: كنتُ الشاب السعودي الذي رأى بأم عينيه كيف كان سلاح النفط السعودي (المولود من قوة الداخل) أحد أدوات النصر في المعركةًٍ. بل وكتبت رسالتي في الدكتوراه عن استخدام العرب لسلاح النفط، واصدرت كتابا فيما بعد تحت عنوان : ( (Arab Petro-Politicsباللغة الإنجليزية، وترجمته لاحقا إلى كتاب باللغة العربية تحت عنوان: (النفط والسياسة العربية).
• في تحرير الكويت، كانت مصر ضمن حلف الأشقاء لنصرة الحق.
• وفي العام 1981، كان الملك سلمان – أمير الرياض حينها – هو مهندس عودة مصر إلى الحضن العربي، بعد سنوات من القطيعة.

من الطفولة إلى السياسة: ذكريات لا تنسى
لم يكن هاشتاق #السعودية_أولًا مجرد شعار، بل خلاصة تجربة عشتها في مصر وأنا طفل، وأدركتها وأنا دبلوماسي، وأؤمن بها الآن كمثقف عربي. وقد عشتُ في مصر وأنا في السادسة من العمر:
• طفل سعودي ولد في جدة، واحتضنه نيل القاهرة، فعاش مصريًا بالحب والانتماء.
• دبلوماسي رأى كيف يمكن للنفط أن يحسم معارك ويعيد التوازن للأمة.
• مثقف يعرف أن حب الأوطان لا يلغي حب الأشقاء، بل يعززه.

الاقتصاد.. جسر المحبة
• أكثر من 50 مليار دولار في التبادل التجاري بين البلدين.
• 7000 شركة سعودية تستثمر في مصر.
• استثمارات بمليارات الدولارات لعائلات سعودية بارزة: الشربتلي، الشبكشي، العثيم، الحكير، صالح كامل – رحمه الله –، والأمير الوليد بن طلال.
• شركة “السعودية المصرية للاستثمار” هي إحدى أذرع صندوق الاستثمارات العامة السعودي.

الخصوصية لا العزلة: دروس من سنغور وعبدالناصر
قال ليوبولد سنغور: “وُلدتُ أسودًا… أموتُ أسودًا”. وأقول: “وُلدتُ سعوديًا… أموتُ سعوديًا”. هذا ليس انغلاقًا، بل هو الاعتراف بجذورك لتمتد أغصانك.
هذه ليست مفاخرة، بل فهم للخصوصية الثقافية التي تُغني، لا تُقصي.
وهذا ما رأيناه في “الخصوصية المصرية” أيام عبدالناصر:
• بناءٌ داخلي قوي في التعليم والصناعة.
• ثم تأثير خارجي كقوة قيادية في العالم العربي.
• “السعودية أولًا” هي ذات المنطق: أن نُصلح بيتنا، ونعزز هويتنا، لنكون شركاءَ أقوياءَ، لا تابعين ضعفاء.

خاتمة: من الذات يبدأ المجد
من يعيش بين وطنين، كمن يشرب من نهرين. مصر علمتني أن حب الوطن دمٌ يسري في القلب. والسعودية علمتني أن هذا الحب مسؤوليةٌ تُبنى بالعقل والإنجاز.
“السعودية أولًا” و”مصر أولًا” ليستا شعارين متقابلين، بل هما وجهان لحقيقةٍ عمرها أطول من ذاكرتي:
لا نورَ يُشرق على العالم من أمةٍ، إلا إذا اشتعل أولًا في الداخل… في الإنسان… في البيت الصغير الذي يُصبح بقوته قلعةً للأمة كلها.
وُلِدتُ سعوديًا على أرض جدة… لكن نيلَ القاهرة غسل قلبي بماء الأخوّة الأزرق. تلك هي “الأولى” الحقيقية: أن تبني وطنك ليكون قادرًا على العطاء… كما أعطتني مصر، وكما نعطيها اليوم.

الطفل السعودي الذي سكنته مصر… والرجل الذي تحمل مصر في قلبه إلى السعودية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى