لا يُقاس رُقيّ الأوطان بعدد الجوائز التي تُعلَّق على الجدران، بل بالمعايير التي تُمنح بها، وبالمنهج الذي تصنعه تلك الجوائز في مؤسساتها. وفي المملكة العربية السعودية، لم تأتِ جائزة الملك عبدالعزيز للجودة والتميّز المؤسسي كاحتفاءٍ شكلي أو تكريم عابر، بل جاءت لترسّخ قيمة كبرى: أن التميز لا يُولد من وفرة الموارد، بل من عمق الرؤية ونضج السلوك المؤسسي الذي لا يُزيّف الواقع ولا يُجامل النتائج.
لقد وُلدت هذه الجائزة في عام 2000م، لا لتكون مجرد وسام وطني، بل لتكون ذراعًا استراتيجية تُحفّز المؤسسات على الإصلاح من الداخل، وتمنحها أداة لتقويم ذاتها، لا لتجميل صورتها. وما إن بدأت الجائزة خطواتها الأولى، حتى اتضح أن اسمها ليس شعارًا بل مسؤولية. فحين تحمل اسم مؤسس هذا الكيان العظيم، فإنها تصبح مسؤولة عن أن تُمثّل إرثه: في الانضباط، الشفافية، وفي أن تكون الدولة راسخة في مؤسساتها، لا مرتهنة لأفرادها.
وفي دورتها الأخيرة، لم تَعُد الجائزة تقيس المؤسسات بحجمها أو بمكانتها الرسمية، بل بما قطعته من مسافة في الطريق نحو التحسين الحقيقي. كان السؤال البسيط العميق: إلى أيّ مدى أصبحت هذه المؤسسة تتعلّم؟ تتحول؟ تتفاعل مع مستفيديها؟ تقيس وتُصحّح؟ ولهذا جاءت معاييرها السبعة كعدسة دقيقة تكشف جوهر المؤسسة لا سطحها: القيادة، الاستراتيجية، تجربة المستفيد، استدامة المنشأة، الشراكات، الأداء، والنتائج. سبعة مفاتيح لا تُفتح بها الأبواب إلا حين تتكامل بإتقان في الفعل لا في التقرير.
وفي وسط هذا المشهد، لم يكن القطاع الصحي متفرجًا، بل كان أحد أكثر القطاعات التي فهمت روح الجائزة وتقدّمت إليها بعقلية الشريك لا المشارك. وزارة الصحة على وجه الخصوص قدّمت في هذه الدورة درسًا في كيفية أن تتحول الجائزة إلى رحلة تصحيح ذاتي. فبدلًا من أن تنشغل بتجميل الصورة، فتحت ملفاتها، وتعمّقت في قراءة واقعها، واستثمرت في التقييم الذاتي قبل أن تنتظر تقييم الآخرين. وحين صعدت إلى المنصة الذهبية، لم يكن ذلك تتويجًا لمؤسسة، بقدر ما كان تتويجًا لعقلية جديدة، وممارسة مختلفة، وخارطة طريق قابلة للتكرار في منشآت أخرى.
وفي مشهد التتويج، لم تكن الجهات الفائزة تقف على المنصة لتُكرَّم فحسب، بل لتُشهد على لحظة نضج مؤسسي حقيقي. كان كل صعود للمنصة إعلانًا صامتًا بأن التميّز ليس صدى قرارٍ مفاجئ، بل حصاد رحلة طويلة من التحسين والتقييم والتصميم. وكان أجمل ما في المشهد أن كل جهة شعرت أن الجائزة لم تُمنَح لها… بل خرجت منها.
التميّز المؤسسي – كما تؤكده الجائزة – لم يعد رفاهية إدارية ولا صيحة عابرة، بل أصبح أحد حقوق الوطن على مؤسساته، وأحد حقوق المواطن على من يخدمه. فحين تطلب المؤسسة نيل هذه الجائزة، فهي تعلن التزامها بنموذج حوكمة يرتكز على النتائج، ويربط الأداء بالأثر، ويحوّل المستفيد من متلقٍ سلبي إلى شريك في التقييم، بل أحيانًا في التخطيط والتطوير.
ولهذا نقول – وبكل وضوح – إن هذه الجائزة ليست حدثًا نحتفي به، بل نموذجًا ينبغي أن نحتذي به. وإن من لم يصعد المنصة هذا العام، لا يزال يملك فرصة أن يراجع نفسه، ويعيد ضبط بوصلته، وينضم للقافلة. أما من لم يدرك بعد قيمة هذا النموذج ولا جدوى هذه الجائزة، فقد تأخر بالفعل عن الركب.
وفي النهاية، إلى كل مواطن ومواطنة… اعلم أن هذه الجائزة وُضعت من أجلك، وأن المؤسسات تتسابق لتنال تقديرها، لكن المعنى الأهم أن تكون أنت من يشعر فعلًا أن هذه المؤسسة قد تغيّرت… لأجلك.
حين تتحول الجائزة إلى مرآة داخلية… يصبح كل مستفيد شريكًا في القرار.
• مستشارة في التخطيط الاستراتيجي وإدارة المشاريع والحوكمة