المؤسسات، كما في حياة الأفراد، لا يكون التغيير مجرد تبديل أسماء على الكراسي. كل انتقال قيادي هو لحظة اختبار عميقة: هل يظل الكرسي أداة نفوذ شخصي، أم يتحول إلى منصة لصناعة أثر إنساني يرتبط بالمصلحة العامة ويخدم المستقبل؟
لقد كشفت التجارب أن المناصب لا تختبر أصحابها بقدر ما تكشف معدنهم؛ فهناك من يتعامل مع الكرسي كغنيمة، فيتخبط في القرارات ويهدر الفرص، وهناك من يتعامل معه كأمانة ومسؤولية، فيحوّله إلى وسيلة لتحقيق رؤية تتجاوز الفرد إلى المجتمع.
وأنا هنا أتساءل: كيف تُقاس كفاءة الكراسي القيادية؟
المعايير العالمية في إدارة المشاريع والجودة مثل PMI وISO 9001 تؤكد أن القيادة ليست منصبًا، بل وظيفة استراتيجية تقوم على توجيه المنظمة نحو غاية واضحة. الكرسي بحد ذاته لا يضيف قيمة، وإنما تُصنع القيمة من خلال القرارات، والحوكمة، والقدرة على جعل الرؤية واقعًا ملموسًا.
الأبحاث تدعم هذا المعنى، إذ تشير إلى أن القيادة الاستباقية الفعّالة قادرة على تحسين الأداء والالتزام بالتوجيهات بنسبة تتراوح بين 10% و14%، ما يؤكد أن الأثر الحقيقي لا يتجسد في بقاء القائد على الكرسي، بل في الكيفية التي يستخدم بها سلطته لتوجيه الموارد وتحقيق الغايات.
ورغم وضوح هذا المبدأ، ما زلنا نشهد في العديد من القطاعات قادة يتعاملون مع مناصبهم كفرص شخصية، فتُدار القرارات لخدمة الأفراد لا المؤسسة. النتيجة المتوقعة – كما أُعلن عنها سابقًا من قبل الجهات ذات الاختصاص – هي غياب الشفافية وتراجع الثقة وتخبط في الإنجاز. في المقابل، تشير الدراسات إلى أن المؤسسات التي تضع المصلحة العامة في صميم قراراتها تحقق نتائج أعلى بكثير؛ فالشركات التي نجحت في بناء الثقة بين القيادة والعاملين تفوقت في الأداء على منافسيها بما يقارب أربعة أضعاف. بينما أظهر تقرير أن 45% فقط من العاملين يثقون بأن قيادتهم تعمل لمصلحة المستفيدين، و23% فقط يرون أنها تعمل لمصلحة الموظفين. هذه الأرقام تبرهن أن المصلحة العامة ليست قيمة أخلاقية فحسب، بل أساس للاستدامة المؤسسية.
وعلى خط موازٍ، نجد أن النماذج العالمية للحوكمة والتميز المؤسسي تقدّم أدوات واضحة لقياس كفاءة القيادة. فـ PMI يربط نجاح القائد بقدرته على تحقيق التوازن بين الزمن والتكلفة والجودة والموارد، بينما تضع ISO 9001 القيادة في قلب نظام الجودة، وتعتبرها مسؤولة عن توفير بيئة عمل تشجع على المشاركة والتمكين. أما نموذج EFQM فيجعل القيادة ركيزة لبناء قيمة مستدامة على مستوى المستفيد والمجتمع.
هذه الأطر النظرية تتقاطع مع الأرقام العملية التي تكشف أن الموظفين المرتبطين بعملهم يحققون إنتاجية أعلى بنسبة تتراوح بين 12% و43%، وأن المؤسسات التي تعزز الارتباط تحقق عوائد أكبر تصل إلى 202%. في ضوء ذلك، يتضح أن غياب البعد الإنساني عن القيادة يفقدها شرعيتها مهما طال بقاؤها.
رؤية السعودية 2030 وضعت الإنسان في قلب التنمية، وهذا يعني أن أي كرسي قيادي لا يسهم في تحسين حياة المستفيدين، وتمكين القوى العاملة، وتحسين بيئة العمل، يصبح بلا قيمة استراتيجية. فالقيادة الحقيقية هي التي تحقق هذا التوازن الثلاثي وتحوّله إلى واقع ملموس يلمسه المستفيد قبل الموظف.
إن التحولات الكبرى لا تُصنع من بقاء الأشخاص على الكراسي، بل من قدرتهم على صناعة أثر يتجاوزهم. القائد الحقيقي يقيس نفسه بما أنجز للمؤسسة والمجتمع، لا بعدد القرارات التي وقعها. ولعل ما يُسمى بالقيادة التحويلية يقدم نموذجًا مثاليًا لما تحتاجه المؤسسات اليوم؛ إذ أثبتت الدراسات أنها ترتبط بارتفاع الإنتاجية، وبناء ثقافة قوية، وتحفيز الابتكار. هذه السمات تحديدًا هي ما تحتاجه المنظمات في رحلة التحول الوطني.
مستقبل المؤسسات، لا سيما في زمن رؤية 2030، لن يُبنى على طول بقاء المدير في كرسيه، بل على قدرته على تحويل الكرسي إلى وسيلة لتحقيق المصلحة العامة. الأرقام العالمية واضحة: القيادة الفعّالة ترفع الأداء بنسبة تصل إلى 14%، وتزيد الإنتاجية بما يتجاوز 40%، وتضاعف الثقة والأثر بأضعاف. الكرسي إذن ليس غنيمة شخصية، بل أمانة استراتيجية، والمستقبل سيقيسنا لا بعدد الكراسي التي جلسنا عليها، بل بمدى الأثر الذي تركناه على المستفيد، والعامل، وبيئة العمل. فالمنصب الذي لا يُترجم إلى أثر يبقى مجرد مقعد فارغ مهما ازدحم بالجلوس.
أخيرًا:
أعلم أن للكراسي بريقًا يخدع، لكن البقاء فيها لا يُكسب شرعية. من لم يكن مؤهلاً لها فليملك شجاعة الاعتذار، وليصنع كفاءته أولًا، ثم ليجلس عليها وهو جدير بالمسؤولية، لا مجرد عاشق للمنصب.
• مستشار إدارة المشاريع والجودة والحوكمة والتخطيط الاستراتيجي







” فالمنصب الذي لا يُترجم إلى أثر يبقى مجرد مقعد فارغ مهما ازدحم بالجلوس” .
عميييقة جدااا .. وحقيقة مؤلمة