الرعاية الصحية الحكيمة لم تعد مفهومًا نظريًا يُتداول في المؤتمرات، بل أصبحت أداة مركزية لتوجيه القرار الصحي، وتحقيق الاستدامة، وتقليل الفاقد، وتعظيم القيمة.
ورغم تبنّي وزارة الصحة لهذا النهج منذ 2021 ضمن إستراتيجيتها الوطنية، لا يزال التنفيذ على مستوى الميدان متأخرًا، ولا يتناسب مع حجم التحدي القائم.
الإشكالية لا تكمن في غموض المفهوم، بل في غموض التطبيق. ويبرز ذلك في غياب الربط بين المبادرات المعلنة والمنهجيات العملية التي تضمن الاستخدام الأمثل للموارد دون الإضرار بجودة الرعاية، أو تغليب الاعتبارات المالية على الاحتياجات السريرية.
تدّعي بعض الجهات الصحية أنها تطبق ممارسات الرعاية الصحية الحكيمة، بينما تُدار قراراتها دون تحليل متكامل للتكلفة والمنفعة، أو مراجعة دقيقة للطلب المفرط على بعض الخدمات، أو حتى تدقيق جاد على صرف الأدوية والفحوصات المتكررة. تغيب خارطة التبذير، وتُؤجّل الأولويات، وتُصاغ البرامج تحت هالة المبادرات لا على أساس تحليل البيانات أو مؤشرات الفاقد.
فهل يمكن اعتبار ذلك تطبيقًا للرعاية الصحية الحكيمة؟
أم أن ما يحدث هو مجرد إعادة تغليف للممارسات التقليدية بمصطلحات عصرية دون أثر حقيقي؟
تأخر التنفيذ لا يعني فقط تعثّرًا في التقدّم، بل يعني مزيدًا من الهدر في الموارد، وفقدانًا للفرص، واستنزافًا للموازنات.
فالتأخر في ضبط صرف الأدوية عالية التكلفة، أو في التحكم في طلبات الأشعة والفحوصات المخبرية غير الضرورية، ليس مجرد تأجيل إداري، بل شكلٌ من أشكال الهدر الصحي المنظّم.
ومن أبرز مظاهر هذا الهدر:
غياب التحليل المستمر لبيانات الاستخدام وتكاليف الإجراءات السريرية، وعدم ربطها بتصنيفات الأولويات أو المسارات العلاجية. المبادرات التي لا تنبع من واقع البيانات تصبح عبئًا تنظيميًا، لا تُغيّر المشهد بل تكرّس ضبابيته.
الرعاية الصحية الحكيمة لا تعني الترشيد الأعمى، بل تعني الاستخدام الذكي والمنصف للموارد.
فالمريض الذي لا يحتاج فحصًا لا ينبغي أن يحصل عليه، لكن المريض الذي يحتاج رعاية متقدمة لا ينبغي أن يُؤخّر بسبب قوائم انتظار متراكمة ناتجة عن ممارسات غير فعالة.
التحول الحقيقي يبدأ عندما تتحول ثقافة “تقديم كل شيء للجميع” إلى “تقديم الشيء الصحيح للشخص الصحيح في الوقت الصحيح”.
ليست هذه شعارات براقة، بل أساسيات في طب القيمة ومبادئ الجودة.
لكن، وفي ظل التوسع في المبادرات، والتداخل بين البرامج، والتغييب الفعلي لمفهوم Choose Wisely كنهج يومي لاتخاذ القرار السريري، تبقى الرعاية الصحية الحكيمة حبيسة الأدراج، محصورة في الوثائق الإستراتيجية، دون تمكين حقيقي في بيئة العمل السريري.
إن النماذج الناجحة في الدول التي تبنّت هذا النهج لم تبدأ بحلول سحرية، بل بدأت باعتراف شجاع:
أن الهدر لا يكمن فقط في الفاقد الظاهر، بل في القرارات غير الحكيمة، وفي التأخير، وفي إطلاق البرامج دون تحليل، وإنهائها دون تقييم.
حتى لا يتحوّل تأخر التنفيذ إلى هدر من نوع جديد، لا بد من إعادة هيكلة المبادرات بناءً على بيانات واقعية، ومنح الرعاية الصحية الحكيمة دورًا فعليًا في توجيه القرار، لا مجرد بند تجميلي في التقارير السنوية.
الكاتبة الفاضلة .. ابدعت اناملك .. واسجل احترامي وتقديري لفكرك النير ورؤيتك الثاقبة والحكيمة ..مقال فاخر يزخر بخبرات عملية عريقة ورؤية حكيمة وحلول استراتيجية مما يشكل معا مشروع تنموي وطني لترسيخ مفهوم وتطبيق الرعاية الحكيمة يستنير به القيادات والمؤسسات الصحية المعنية مجددا تحياتي وتقديري لقلمك المبدع وفكرك النير وبانتظار جديدك وابداعك المتجدد