المقالات

حين وُلد التاريخ… دون أن يعرف أنه وُلد

في كل جمعة، تُعاد علينا مواسم الهداية. لكن خطبة ذلك اليوم كانت مختلفة. لم تكن موعظة عابرة، ولا خطبة تقليدية تنتهي بالدعاء. كانت أشبه بباب، انفتح فجأة على لحظة نادرة في عمر البشرية، لحظة وقف فيها موسى عليه السلام أمام البحر، والماء لا يُفسح طريقًا، ولا السيف من خلفه يتأخر.
قال قومه: “إنا لمدركون.”
وقال هو، دون أن يعلم بما سيحدث، ودون أن يطلب تفسيرًا:
“كلا، إن معي ربي سيهدين.”

كانت تلك الكلمة، في ظني، لحظة ولادةٍ لتاريخ جديد.
لا تاريخٌ مكتوبٌ بالحبر، بل بالإيمان.

خرجت من المسجد، وأنا أحمل سؤالًا بسيطًا شكله، عميقًا معناه:
متى وُلد التاريخ؟
لا أقصد متى كتبناه، بل متى شعرنا أنه يستحق أن يُكتب؟

تذكرت أن رسول الله ﷺ نفسه، وُلِد ولم يُكتب يوم مولده في سجلّ، بل وُصِف فقط بأنه وُلِد في عام الفيل. وكأن الزمن يومها لم يكن يُقاس بالأيام، بل بالأهوال. لم يكن للناس تقويم، ولا سنة يُرجعون لها، ولا شهور تتتابع برقْمٍ، بل كان الزمن شيئًا سائلاً، كالماء، يُشرب منه، ويُنسى في سكونه.

كانوا يقولون: وُلِد فلان بعد معركة كذا، وتوفي فلان في سنة الرحمة، وتزوجت فلانة في عام الرمادة.
يؤرخون بالأحداث، لا بالتواريخ.
بالحزن، لا بالأرقام.
بالمطر، لا بالأشهر.

حتى جاء الإسلام، ثم الدولة، ثم المسؤولية، ثم الحروف التي بدأت تتحول إلى نظام.

وجاء أبو موسى الأشعري يومًا إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وقال له:
“يا أمير المؤمنين، تأتينا كتبٌ منك ليس لها تاريخ.”
ففهم عمر أن الأمة تكبر، وأن شؤون الدولة لن تنتظم إلا بزمنٍ يُجمع عليه الناس، لا زمنٍ يتذكره كلٌ بطريقته.

فجمع الصحابة، وكان فيهم علي بن أبي طالب، الذي قال: “بل نبدأ من الهجرة، فهي التي فرق الله بها بين الحق والباطل.”
وقال عثمان بن عفان: “ونجعل محرّم أول الشهور، فهو أول ما يعود فيه الحجيج، وفيه يُطوى عام، ويُستفتح آخر.”

فهزّ عمر رأسه، تلك الهزّة التي تسبق القرار حين يثق قلبه بما سمع.
وقال كلمته:
“الهجرة هي البداية. ومنها نبدأ العام.”

وهكذا، وُلد التاريخ… دون أن يعرف أنه وُلد.
لم تكن لحظة معجزة، بل لحظة اجتهاد.
لم يكن قرارًا إداريًا، بل إجماعًا على أن الزمن لا يُحترم إلا حين نربطه بحدثٍ أعظم من أعمارنا.

ومنذ ذلك اليوم، بدأنا نكتب: “في سنة كذا من الهجرة”،
وصارت كل لحظة، كل ولادة، كل موت، كل عقد، كل عهد… يُقاس من ذلك الحدث الفارق.
من يوم خرج النبي ﷺ من مكة، تاركًا موطنه، حاملاً دعوته، مطاردًا بالإيذاء، لكن مسكونًا بالوعد الإلهي: “إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.”

اليوم، نحن نكتب:
١٠ محرم ١٤٤٧هـ.
أي: مرّت خمسمائة وسبع وعشرون ألفًا وأربعمائة وأربعون يومًا على تلك اللحظة التي خرج فيها النبي ﷺ مهاجرًا.
خمسمائة ألف يوم… نأكل ونشرب ونُولد ونموت على هذا التقويم، دون أن نتوقف لنتأمل: من جعله؟ ولماذا بدأ من هناك؟ ولماذا لا يبدأ تاريخ أمةٍ إلا من لحظة إيمانٍ وموقفِ تضحية؟

فيا من تقرأ هذا المقال، اعلم أن كل عقد تزوجه أجدادك، وكل شهادة ميلادٍ حملتها، وكل توقيعٍ كتبته، وكل سنةٍ درستها، وكل تقويمٍ علّقته على الجدار…
كلها تنتمي لذلك القرار،
لذلك اليوم،
لذلك الوعي،
الذي فيه…
*وُلد التاريخ، دون أن يعرف أنه وُلد*

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال جميل ولفتة رائعة.
    يخالجني سؤال يردده علي البعض لكنني اتجاهله
    هل صحيح أن تاريخناهذ الذي وصفت قصته في مقالك كله خطأ كونه لم يتوافق مع السنة السمسية مثل التاريخ الميلادي. وما النسيئة التي يتحدثون عنها ؟

    افدنا جزاك الله خيرًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى