في زمن لم تعد فيه المفردة وحدها كافية، ولا الصورة قادرة على قول كل شيء، تتجه الجامعات السعودية نحو التفكير في اللغة بوصفها أكثر من أداة، وأكثر من مهارة. لم تعد صناعة المحتوى تقتصر على منصات النشر أو أدوات الإعلام، بل أصبحت انعكاسًا لوعي مؤسسي، ولسؤال أعمق: كيف نكتب ما نريد أن نكون؟
من هذا السؤال تحديدًا، ومن سياق يتسارع فيه إيقاع التحول الرقمي، أطلقت جامعة أم القرى برنامجًا أكاديميًا نوعيًا بعنوان “الاتصال اللغوي وكتابة المحتوى”، في شراكة علمية تكاملية بين كلية اللغة العربية وآدابها وكلية العلوم الاجتماعية ممثلة في قسم الإعلام.
خطوة ليست عابرة، ولا إجراءً تنظيميًا مؤقتًا، بل امتداد لفكرة أعمق مفادها: أن الكلمة حين تُصاغ بوعي، تُحدث أثرًا، وتصنع فرقًا.
فالبرنامج لم يأتِ استجابة ظرفية، بل تأسّس على قراءة هادئة لمتطلبات السوق، ولتحولات الخطاب المهني في مؤسسات الدولة وقطاعاتها. الحاجة باتت أكثر إلحاحًا إلى أصوات مهنية تتقن اللغة لا من باب القواعد والنحو فحسب، بل من باب الوظيفة الاتصالية: أن تُقال الكلمة الصحيحة في اللحظة الصحيحة، وبالأسلوب الذي يليق بالمقام والجمهور والسياق.
في جوهره، لا يسعى البرنامج إلى تخريج كتّاب تقليديين، بل إلى تكوين كفاءات وطنية واعية تدرك أن المحتوى لم يعد مجرد “معلومة” عابرة، بل أصبح هوية، ورسالة، وتأثيرًا طويل المدى. أن تُجيد الصياغة لا يعني أن تكتب فقط، بل أن تفهم منطق النص، أن تعي البنية الداخلية للمعنى، وأن تمارس التحرير بوصفه فعل اقتراب من المتلقي، لا إسقاطًا عليه.
تكمن فرادة هذا البرنامج في بنيته المعرفية المتكاملة، حيث تضع كلية اللغة العربية خبرتها المتجذّرة في علوم البلاغة والنحو والتحرير، إلى جوار قسم الإعلام الذي يمدّ البرنامج بأدوات الحاضر: من تقنيات النشر إلى أساليب التأثير ومنهجيات صناعة المحتوى.
هنا تتجلّى قيمة الشراكة: لا بلاغة تُقال في فراغ، ولا محتوى يُنتج دون قاعدة لغوية رصينة.
وقد حظي البرنامج منذ انطلاقه بدعم مؤسسي مباشر من معالي رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور معدي بن محمد آل مذهب، وبمتابعة دؤوبة من معالي وزير التعليم، إيمانًا بأن التعليم اليوم لم يعد وظيفة معرفية منعزلة، بل هو أداة لتشكيل الخطاب العام وصناعة الوعي الوطني، عبر لغة تحافظ على أصالتها وتتقن أدوات العصر في آنٍ معًا.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل البرنامج عن الإطار الوطني الأوسع الذي تتحرك فيه الجامعات السعودية اليوم، والمتمثل في رؤية المملكة 2030، التي وضعت ضمن مستهدفاتها الإستراتيجية: تنمية رأس المال البشري، وتعزيز المحتوى المحلي، والارتقاء بجودة التعليم الجامعي.
ومن خلال هذا البرنامج، تُسهم جامعة أم القرى في تحقيق هذه الأهداف من خلال تأهيل جيل جديد من الكفاءات الوطنية، القادرة على أن تكتب للوطن بلغته، وتُعبّر عنه بصوتٍ يليق بمكانته، وتنتج محتوى لا يُشبه إلا هويته.
ولعلّ القيمة الأعمق لهذا البرنامج، أنه لا يضيف خطة دراسية فحسب، بل يقدم بيانًا أكاديميًا ضمنيًا عن التقاء الحرف بالصوت، والمعنى بالوسيلة، والمحتوى بالهوية.
إنه إعلان تربوي صامت بأن الكلمة، حين تُكتب بوعي، لا تصف الواقع فقط… بل تعيد تشكيل ملامحه، وتبني وعيًا جديدًا يُعبّر عن طموحات الوطن، ويصنع لغته القادمة بثقة واحتراف.






