عام

بيليجرو! بيليجرو! دوندي إستا الريفوخيو؟… صدى الغرامات في قلب السوق

كانت نزهة بسيطة في جدة التاريخية.
مجموعة من السياح الإسبان والإيطاليين يتجولون بين عبق الأزقة، يلتقطون صورًا لأبواب الروشان، ويتذوقون طعم الحجاز من يد طاهٍ سعودي يعمل من السادسة صباحًا.
جلسنا في أحد المطاعم العريقة التي حافظت على تراثها في زمن السرعة. وبعد وجبة شهية، خرجنا إلى السوق لنكمل الجولة، فإذا بالمحلات تُغلق تباعًا، الواحدة تلو الأخرى، في لحظة واحدة.
السياح توقفوا بذهول. قال أحدهم وهو يلتفت إلى البقية:
“بيليجرو! بيليجرو! دوندي إستا الريفوخيو؟”
(¡Peligro! ¡Peligro! ¿Dónde está el refugio?)
(خطر! خطر! أين الملجأ؟)
لم يكن هناك خطرٌ فعلي، لكنه الخوف من “المفتش”، من دورية إجادة – نظام الرقابة الإلكترونية التابع للأمانات والبلديات – التي وصلت إلى أحد مداخل السوق.
فعلى أطراف السوق، هناك من يرصد،
وفي داخل المجموعات المغلقة، هناك من ينقل:
“وصلوا من بوابة الشرق”، “الفرقة الثانية دخلت من الغرب”، “سكّر فورًا”، “تفادَ الزيارة”.
هذا مشهد يومي مألوف في أسواقنا، حيث تتحول الرقابة من أداة تنظيم… إلى مصدر هلع.
بحسب تقرير “جاهز لاتجاهات قطاع المطاعم والمقاهي 2024”، يمثل قطاع الأغذية والمشروبات أكثر من 15% من عمليات نقاط البيع في المملكة، ما يجعله من أكبر روافد النشاط التجاري المحلي، ومن أعمدة التحول الاقتصادي ضمن رؤية 2030.
لكن هذا القطاع الحيوي، الذي يُفترض أن يكون محميًّا ومدعومًا، يواجه بيئة تشغيلية متوترة، تتفاقم فيها التكاليف، وتُثقلها الغرامات، لا سيما من قبل بعض الممارسات الميدانية المرتبطة ببرنامج إجادة.
وفي تقرير “تحليل التحديات التي تواجه أصحاب الأعمال في قطاع المطاعم” (2023)، نُشرت أرقام صريحة:
• الغرامات والعقوبات جاءت في المركز الرابع من حيث تأثيرها على دخل المطاعم.
• 74% من المشاركين يرون أن المنافسة في السوق مرتفعة أو مرتفعة جدًا.
• 91% من أصحاب المشاريع يرون أن مخالفة الاشتراطات تمثل عبئًا ماليًا مباشرًا، خصوصًا في ظل غياب التدرج أو الإنذار قبل تطبيق الغرامة.
المشكلة إذًا ليست في جودة الطعام… بل في استقرار السوق نفسه، وفي العلاقة المتوترة بين الرقابة والتمكين.
وبينما تسعى وزارة السياحة منذ سنوات إلى ترسيخ مفهوم “شركاء النجاح” في القطاع، وتؤكد أن المرشد السياحي لا ينجح إلا بصاحب المطعم، وأن تجربة الزائر لا تكتمل إلا بالسائق والبائع والنادل ومقدم القهوة، نجد في الميدان ممارسات رقابية تنقض هذه الفلسفة من جذورها.

فكيف يكون صاحب المطعم شريكًا في النجاح، بينما يعيش في حالة تأهب دائمة؟
وكيف نطلب من المستثمر أن يقدّم أفضل تجربة، بينما هو مشغول بإطفاء أنوار المحل لا حفظ حرارة الطبق؟
إن تعزيز الشراكة لا يتم بالشعارات وحدها، بل بتكامل سلوك الجهات الرقابية مع وعود الجهات التمكينية.
ولإعادة الاتزان بين الرقابة والاستثمار، من الضروري التمييز بين أنواع المخالفات:
• هناك مخالفات تُعالج بالتوجيه والتنبيه، مثل تأخير طفيف في تجديد رخصة، أو نقص لوحة إرشادية، أو خلل غير مباشر لا يؤثر على سلامة الغذاء أو الصحة العامة. هذه لا تستوجب الغرامة المباشرة، ويمكن تصحيحها مع إعطاء مهلة.
• وهناك مخالفات لا يجوز التساهل معها إطلاقًا، مثل سوء التخزين، استخدام مواد منتهية الصلاحية، التلاعب في تواريخ الإنتاج، أو تعمّد الإضرار بالمستهلك. هذه تستوجب التدخل الفوري، والحزم الكامل دون تهاون.
العدالة في التفتيش لا تعني التراخي، بل التمييز.
والصرامة ليست في الصوت المرتفع، بل في تطبيق النظام بوعي سياقي وعدالة اقتصادية.
لحظة خوف واحدة… قد تُبدد سنوات من جهود وزارة الاستثمار لجذب المستثمرين الأجانب.
رسالة عاجلة في مجموعة مغلقة… قد تنسف خطة توسع كان من المفترض توقيعها الأسبوع المقبل.
“سكّر قبل لا يوصلك المفتش”… مرآة مشروخة لصورة السوق ككل.
الحل ليس في كبح “إجادة”،
بل في إعادة تعريف دورها وقياس أثرها الحقيقي على استقرار السوق، لا فقط على عدد الضبطيات.
نريد أن تكون الرقابة عقلانية، متدرجة، مدروسة، وواعية بالبعد الاقتصادي.
نريد أن يُحاسب المفتش على عدد المنشآت التي ساعدها على الامتثال، لا عدد المخالفات التي أصدرها.
نريد أن تُفعّل آلية:
1. التوجيه أولًا،
2. ثم التنبيه،
3. ثم الغرامة – وليس العكس.
نريد من الأمانات، البلديات، وزارة التجارة، ووزارة الشؤون البلدية أن تُشارك في تحسين السوق، لا فقط في مراقبته.
بيليجرو! بيليجرو! دوندي إستا الريفوخيو؟
قالها سائح وهو ينظر حوله في ذهول،
لكنها كانت أبلغ من كل تقارير الاستثمار،
وأصدق من كل لوحات الترويج.

لم يكن يبحث عن ملجأ من حريق أو فيضان،
بل كان يترجم بعفوية سؤالًا أكبر يتردد في قلوب أصحاب المحلات كل يوم:
أين نلجأ من نظامٍ لا يُمهل؟
من زيارة تفتيش لا توقيت لها؟
من “إجادة” التي قد تأتي صباحًا أو عصرًا أو ليلًا… دون تنبيه ولا تدرّج؟

فقد أصبح لكل مدخل في السوق “عينٌ تراقب”، وبكل حيّ تجاري “برج إنذار”، يرصد مركبات البلدية، ويرسل الرسائل فورًا:
“الدورية دخلت”،
“سكّر الآن”،
“احتمِ بالهدوء، لا بالامتثال”.

الريفوخيو إذًا… ليس في بابٍ يُغلق، ولا في متجرٍ يُطفأ،
بل في رقابة تُفهم لا تُفاجئ،
وفي مفتش يُصلح لا يُرعب،
وفي جهاز بلديّ يرى التاجر شريكًا، لا مستهدفًا.

فحين يغلق التاجر باب متجره،
لا بد أن نعيد فتح باب السؤال: من الذي يحتاج إلى إعادة تأهيل فعلاً؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى