«جواهريات»
على جادة الزمان وضعت لها متكأ ، منذ أسدلت نتاجها إلى زمننا الحالي وما بعده أزمان وأزمان، تلك التي شيدت لها في الأرض صرحًا تخلّد، تلك هي الكلاسيكية وتاريخها التليد الزاخر .
عندما نقرأ في الأدب الكلاسيكي نجد ذواتنا بين كل حرف وحرف، في بيانه تبيان لحال سالفٍ وآن، كأنها تحكي الحال وتعلم مافي القلب والعقل، بالرغم أنها كُتبت قبل سنين مضت ومر عليها أزمنة وأجيال وحُقب، ومع ذلك استحقت البقاء لأن الديمومة تلوح على ذروتها بكل صلابة في نتاجها ووتد سبكها وحرفها الرصين، ولأنها وضعت نصب عينيها المحور الإنساني فهو ما ترمي إليه دون قيّد لزمن أو أيديولوجيا محددة ترتبط بزمن النشأة ، بل نرى أنها امتدت لأزمان متتابعة.
ويرى الكثيرون أن الإرث الأدبي مهم أن يبقى وتبقى ظلاله يستظل بها من بعده ، فهذا أديب انساق حرفه نحو تمجيد ما سلف؛ لأنه رأى فيه ما يستحق ذلك، أو كتب مستقلا بقلمه مع الرجوع لإرث الأمة مقتبسًا منه ما يقوي بيانه ويشرع أمامه آفاق التفكير والتفكر، وذلك القارئ بحاجة لاستحضار دائم لما مضى من أخبار وقصص ومسرحيات وروايات وحكم ومآثر مؤطرة بالأدب عميقة بالخطب الذي نجد فيه تفاصيل أيامنا وأحداث حياتنا وسير وقائعنا.
وفي هذا الإطار تجوب ذاكرتنا للوراء، فتقابلنا المعلقات إلى المقامات والتوقيعات والرسائل والنوادر وألف ليلة وليلة والإلياذة والأوديسة ومسرحيات شكسبير وغيرها
ذلك الأدب القديم التليد الذي تسيد ونال مجدًا وتأصل في نفوسنا ، لا يكون التغني به قولا فحسب بل قولًا وفعلًا بالمجالسة، ولعل حديثي في هذا المقام هو تذكير بأن نرجع للأصول ننقب ونبحث، فإن رصانة العقل في التفكر والتأمل والتأسي وأخذ زمام الفائدة والربط وجمع النظير بالنظير، ومجالسة الأدب الكلاسيكي يجعلنا نرى السالف ونعيش تفاصيله، وننهل من موارد الشعوب وثقافتها ونتدارس مبادئ الأمم وأخبارهم وطقوس حياتهم، تأملوا معي الزمان .. فهو يعيد نفسه ولكن باختلاف الأشخاص ، وهذا ما يجعلنا نطرب ُ عندما نقرأ في الأخبار والقصص والشعر وما هو موروث تعهده الزمان بالاكتراث والحفظ.
يقول ابن عبد ربه في مقدمة العقد الفريد : ( وقد ألفتُ هذا الكتاب وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب ومحصول البيان فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإن ما لي فيه هو تأليف الاختيار، وحسن الاختصار وفرش لدرر كل كتاب، وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء ومأثور عن الحكماء والأدباء … )
ونرى الأدب وما يحوي من دُرر يصوّب نباله نحو جوهر ومكنون القارئ ، وسيطبع في أفعاله ورجاحة عقله بقدر ما جالس وآنس من تجارب غيره وأخبار من قبله.بالتالي وصل الأدب لمراده .. ونال القارئ مرامه .