
في زمنٍ تتداخل فيه أدوات التأثير وتُساق فيه الحقائق عبر أساليب ناعمة ومقنّعة، لم تعد تهديدات الأمن الوطني محصورة في المساحات التقليدية، بل باتت تتسلل إلى الوعي الجمعي عبر ما يُعرف بالسرديات الموجهة. هذا النوع من الغزو الفكري لا يقرع أبواب الجدل، ولا يرفع شعارًا صريحًا، بل يتسلل بهدوء، عبر تراكمات خطابية وثقافية، ليُعيد تشكيل المفاهيم الوطنية ويُفرغها من مضامينها العميقة. ليست السردية الموجهة مجرد رأي يُطرح، بل هي مشروعٌ متكامل يُبنى داخل المساحات الإعلامية والثقافية، ويتغذى على الفجوات الفكرية والفراغ القيمي، ويستهدف بشكل خاص فئة الشباب، لا عن خصومة مباشرة، بل باعتبارهم نقطة الدخول الأسهل لإعادة التشكيل وإنتاج وعي بديل أكثر هشاشة.
ومن هذا المنطلق، جاء خطاب المتحدث الرسمي لرئاسة أمن الدولة ليكشف بوضوح عن خطورة هذا المسار، مؤكدًا أن المملكة اليوم تواجه مشاريع فكرية موجهة تُبث بأساليب ناعمة تخفي داخلها خداعًا ومكرًا. إنها محاولات مدروسة لإعادة هندسة القيم عبر محتوى يبدو في ظاهره ترفيهيًا أو ثقافيًا، لكنه يحمل بين طياته رسائل مضمرة تُسهم تدريجيًا في زعزعة الثقة، وإضعاف الولاء، والتشكيك في المنجز الوطني، بل في قيمة الوطن ذاته. إن السردية الموجهة تسعى إلى الانتقال مما نملك إلى ما نجهل، من الاعتزاز إلى الإنكار، من الارتباط إلى الانفصال. وكما أشار المتحدث الأمني، فإن المروجين لهذه السرديات يعملون على خلق حالة من الفراغ المعرفي، يستثمرونها لإعادة تشكيل المجتمع بأيديولوجيات لا تنتمي إليه، بل تُستورد في هيئة فكر نقدي زائف يُقدَّم تحت شعارات فضفاضة كالحرية والحداثة والانفتاح.
هذه السرديات لا تُقدَّم بشكل فجّ، بل تُبنى داخل خطاب سردي محكم، يُخفي داخله أجندات مفككة، تُعارض بعض جوانب المشروع الثقافي الوطني، وتُقدم الذات السعودية باعتبارها منتجًا يمكن اختزاله أو استبداله. وهنا يكمن جوهر التهديد: حين تُصبح الأفكار المعادية غير مباشرة، مُغلّفة بالسخرية، مغمّسة في الترفيه، متخفّية في حوارات البودكاست، أو كامنة في فصول التعليم أو تغريدات المؤثرين.
إن ما شدد عليه المتحدث الرسمي هو أن استشعار الخطر يبدأ من الداخل، من تلك اللحظة التي نُساق فيها نحو تماهٍ غير واعٍ مع حدود فكرية لا نعرف من رسمها، أو لماذا علينا أن نذوب فيها دون حساب لتاريخنا وهويتنا. فالمملكة لم تكن أرضًا تُستعمر فكريًا في يوم من الأيام، ولن تكون كذلك، لأن الأساس الذي يُبنى عليه المستقبل لا يُعاد تعريفه كلما مرّت موجة. هو ثابت يستمد قوته من تراكم الانتماء، لا من موضة السرديات المتقلبة.
المشكلة الكبرى في السرديات الموجهة ليست فقط في مضمونها، بل في مناخ الغفلة الذي يُحيط بها. حين يفتقد المجتمع سرديته الوطنية الواضحة، تتكاثر عليه الروايات البديلة، فيجد أفراده أنفسهم أمام مشهد فكري مشوّش، لا يُقدّم لهم الحقيقة، بل يُفرغهم من قدرتهم على تمييزها. هنا لا تكون المواجهة مسألة ردع، بل مسألة بناء، بناء وعي، وبناء سرد وطني بديل، لا يصطدم بهذه المرويات فقط، بل يسبقها ويُحصّن الناس منها. كما أشار المتحدث: احذروا من كل رأي أو موقف أو أجندة توظّف نفسها خارج الوطن، فلا سقف يعلو فوق سقف وطنكم.
إن الأمن الفكري في جوهره هو سياج الوعي، وإذا تآكل هذا السياج فإن المجتمع، مهما امتلك من القوة المادية، سيقف هشًا أمام موجة إعادة التشكيل. السردية الموجهة لا تُهاجم الوطن، بل تُصوّره كفكرة قديمة يجب تجاوزها، وتُقنع الجيل بأن الخروج من عباءته هو نوع من التقدم. لكنها لا تقول لهم إلى أين. وهنا تكمن قمة الخطر: أن ننتقل من مرحلة الدفاع عن الوطن إلى مرحلة تفسيره وكأنه متّهم.
في الختام، ليست السردية الموجهة مجرد قصة أخرى تُروى، بل هي معركة ناعمة تُخاض على الذاكرة والانتماء، ومعركة كهذه لا تُربح بالشعارات، بل بالوعي. والوعي لا يُبنى إلا عندما نقرر أن نكون أوفياء لسقفنا الوطني، لا نسمح لأي خطاب أن يعلو عليه، ولا لأي سرد أن يُعيد تشكيلنا خارج ظل قيادتنا، التي بفضلها نحيا في أمنٍ وأمان، ولها نُدين بالولاء الكامل الذي لا يتجزأ