
أغمضتها”.. غناء على حافة الرحيل
ثمة أغانٍ تُشبه رسائل وداع لا تُرسل. لا يُكتب عليها اسم المرسل ولا المُرسل إليه، لكنها تصل في اللحظة التي تتشقق فيها النفس وتفيض.
أغنية “أغمضتها” للفنانة ولاء الجندي هي واحدة من تلك الرسائل، لكنها جاءت بصوت خافت، ونبرة مغمّسة بالحكمة، لا بالانهيار. إنها غناء لا يعلو، لكنه يستقرّ في الداخل، كأثرٍ لا يُمحى.
منذ اللحظة الأولى، يُدرك المستمع أنه أمام عمل لا يتوسّل الضوء، بل يصنعه من الداخل. غرفة داكنة، مقعد وحيد، نظرة شاردة، وكلمات تنساب كأنها صدى لحديثٍ لم يكتمل.
كتب القصيدة الدكتور محمد المقرن، لا من موقع الشاعر المتفرج، بل من منطقة الذاكرة المجروحة، حيث المشاعر لا تزال طرية، والوجع غير معلن لكنه مقيم. في بيتها الأول، تتكشّف التجربة:
“وكتمتُ آلام الحنين فأفصحتْ / عيني وأطلقها الفؤادُ بأدمعي”
ليست الكلمات مبنية على فصاحة لغوية، بل على صدق شعوري يفيض دون استئذان، كأنها كُتبت بعد لحظة صمتٍ طويلة، قررت فيها النفس أن تعترف… لكن على طريقتها.
ولاء الجندي بدورها، لم تؤدِّ الأغنية كما تُؤدى النصوص، بل سكنتها. اختارت أن تُنصت أكثر مما تُغني، فكان صوتها أقرب إلى التأمل منه إلى الأداء. كل جملة تحمل قدرًا من الانكسار المضبوط، وكل حرفٍ مشغول بعناية لا مبالغة فيها، حتى كأن المستمع يظن أن ما يسمعه لم يُسجل… بل سُرّب من لحظة شخصية جداً.
هنا بالتحديد، تتجلى حكمة التكوين الفني؛ إذ جاء اللحن الذي وضعه محمود عيد هادئًا كخطى مترددة في ذاكرة لا تزال تحتفظ بتفاصيل الوداع.
أما التوزيع الذي صاغه ألكسندر ميساكيان، فلم يحاول أن يملأ الفراغات، بل تركها تنطق. استخدم الصمت كأداة صوتية، وجعل من الخفوت طيفًا جماليًا، لا فراغًا.
الصورة التي رافقت العمل، بإخراج نور طربيه، تجسدت بعينٍ تُدرك أن الحزن لا يحتاج مؤثرات بصرية ليُصبح محسوسًا. يكفي هاتف على الطاولة لم يرن، نظرة معلقة على الفراغ، وإضاءة خافتة تتقاطع مع الظل، حتى يصبح المشهد كاملاً.
كل عنصر في الكادر يؤدي دورًا، لا ليشرح، بل ليصمت كما تفعل الذكريات حين تعجز عن الكلام.
وفي نهاية العمل، لا تأتي ذروة صوتية كما اعتدنا، بل تُلقى الجملة الأخيرة كأنها تنهيدة داخلية لا يسمعها أحد:
“كيف الذين حملتُهم في أضلعي / أضيعهم؟!”
هنا، لا نكون أمام تساؤل شعري، بل أمام سؤال وجودي. سؤال يخصّ كل من أحبّ بصمت، وكل من خسر بصمت، وكل من آمن بأن الذاكرة ليست بالضرورة مرئية، لكنها ثقيلة، تشبه العطر القديم في غرفة بلا نوافذ.
خاتمة:
“أغمضتها” ليست أغنية تُؤدى وتُنسى، بل تجربة شعورية خافتة تقيم في القلب بهدوء. عمل لا يبحث عن الضجيج ولا يُراهن على الانتشار، بل ينتمي إلى النوع من الفن الذي لا يشيخ، لأنه صادق، ولأن من كتبه ولحّنه وغنّاه… كان يُحاول أن يقول الحقيقة، لا أن يُبهر بها.
في زمن يتكاثر فيه الغناء وتقلّ فيه المشاعر، جاءت “أغمضتها” لتهمس لنا أن هناك من يكتب عن الحنين دون أن يصرخ، ومن يغني عن الفقد دون أن ينهار، ومن يُغمض عينيه لا لينسى، بل كي يُبقي الذاكرة حيّة… بصوتٍ لا يُجيد إلا الصمت