المقالاتعام

الأداء بين الحضور والإتقان

Wait! Generating MP3 Batch No. 1 out of 22

المناصب لو لها لسان لتكلّمت عمّن حمله أثقلَ كاهلها، أو كانت هي الحملَ الثقيل عليه؛ إنما بعزم القائد أصبحت هَيِّنةً مُطاوعة.
كم قائدًا تولّى المناصبَ العليا في العالم بلا أيّ مؤهلات قيادية، مجرّد مؤدٍّ نفحته رياحٌ ما لتولّي ذلك المنصب.
يحضر أوّلَ الدوام وينصرف عند نهايته، مجرّد رقمٍ أصمّ.

أذكر قائدًا لإحدى الإدارات، إذا انتهى وقتُ الدوام الرسمي وأُتِيَ له بأوراقٍ أو أيّةِ مراجعة، أمسك بالقلم من على الطاولة ورفعه أمامهم بكِبرياء الطاووس، ثم وضعه في جيبه؛ وتلك إشارةٌ يوميّة تنبئ بأنّ «العمل جبر… خلاص شطبنا».
هل عليه أن يُمضي تلك الأوراق؟ لا، بل يرى أن يمضي إلى بيته؛ فحضرته—أو سمّه ما تسميه—ما قصّر: حضر في أوّل دقيقة من بداية الدوام وخرج بعد أن استنفد الوقتَ النظامي.
طبعًا عداه العيبُ في نظر البعض؛ فهذا القائد حريص على الدوام، فهو مثل الساعة، ضابطٌ دوامه بالمِلِّي.
أمّا في نظري، فهو مثل الساعة بالمعنى الشعبي: لا يقدّم ولا يؤخّر؛ يعني حضوره كعدمه.

هذا القائد وأمثاله، ماذا فعلوا خلال أوقات العمل؟ وماذا أنجز القطاع الذي يقوده؟
هو لا يعير اهتمامًا لذلك؛ بل الأهمّ أن يبتعد عن معالجة الأزمات بقرارات حاسمة قد تجعله تحت مظلّة المساءلة.
ولا شكّ أنّ هذه تحتاج إلى فكرٍ وشخصيّة مُلهِمة ذات إرادة وقرار.
فمَن يتهيب صعود الجبال يعِش أبد الدهر بين الحُفَر.

كثير من هؤلاء شعارُه: «نحن كدا حلويين أوي، فمالي والتغيير ووجع الدماغ!».
يحاسب على دقيقة تأخيرٍ في الدوام ويعطي ظهره للإنجاز، ويتغاضى عمّا يرشح إليه من فساد أو سوء إدارة أو عدم قضاء حوائج الناس.

قال لي أحدهم، كان يعمل في إدارة يكثر فيها مراجعةُ المواطنين، إنّه عندما عُيّن في تلك الإدارة قدّم أفكارًا تساعد في تخفيف الروتين، وقدّمها للرئيس.
يقول: عندما قدّمتها، كنت فخورًا، ولو لم أُمسك زمام نفسي لأصابني بعض الغرور وربما كله.
فقرأها المدير ثم قال: «أنت مجنون!»
فضحكت في داخلي وفكّرت أنّه يقصد «مجنون» بمعنى «واد مُعَفْرِت».
فانتشيت، لكن من باب اللياقة قلت: «المجنون يا طويل العمر، أنت تعقله».
وقلت في نفسي: أفكارك يا ولد جهنمية، وإجابتي كانت ذكية، وأكيد سأُكلَّف بهذه المهمة، وعليها خطاب شكر—وهو أدنى المكاسب.

قال: «اسمع يا ولدي وافتح أذنك وعينك».
ظننتُه سيقول: «افتح عينك تأكل ملبن»، لكنه استمرَّ قائلًا:
«طيب، لو نفذنا كلامك هذا، واللهِ ما عاد يراجعنا آدمي، ونَبقى أنا وأنت مثل الصفر اللي على شمال الرقم الأوّل، وما عاد تشوف مراجع بعينك، ونصبح مثل خيال المآتة—لا نَهُشّ ولا نَنشّ».
يقصد أنّ وجوده كعدمه، مع أنّ خيال المآتة—وهو جماد—يؤدّي عمله الذي أُقيم لأجله.

الموظف يقول: فوجئتُ بهذا الرد فقلت: «بس يا طويل العمر…»
فقاطعني: «اسمع، لا بس ولا قطو، قُمْ لشغلك قم».

هذا الرئيس وأمثاله كلّ همّهم أن يخرجوا من العمل وصفحتهم بيضاء زي الفُلّ—حسب قناعاتهم البائسة.
هؤلاء مكانهم دهاليز وأقبية التاريخ، وهي كثيرة عليهم.

معظم العاملين في أي قطاع أو مؤسسة يتمنَّون مغادرة هذه النماذج من القيادات التي تخشى اتخاذ القرارات أو القيام بالمبادرات، بل تعشق وتتعلّق بدباديب طَمَم من انقرضوا جسدًا وتاريخًا.

إن العمل يحتاج إلى منظومة مؤلَّفة من كلمات متسلسلة:
موهبة، فكر، إرادة، قرار، تنفيذ، متابعة، فحساب.
هذه كلّها حين تُتوَّج بالإبداع تكون قِمّة النجاح وفخامة الإنجاز.

أتمنّى على كل من كان أو سيكون محظوظًا بالعمل في هذه المرحلة أن يُسهِم في بثّ الحياة في شرايين النشاط الذي يُكلَّف به، وألّا يكون مجرد معزوم من ضمن المعازيم؛ بل إمّا صاحب الدعوة أو ضيف الشرف المتألق على مسرح نبض الحياة.

الأجيال لن تنسى مَن مرّ على منظومة الأعمال من منجزين ومبدعين كان لهم أثر في التغيير الذي مكّن المواطنين من قضاء مصالحهم في يسر وكرامة.
قد تكون القائمة تحتوي على الكثير منهم—وإن اختلفت الإنجازات ومستوى التأثير—لكن يظلّ أميرُنا وليّ العهد قائدَ التغيير ونجمَ الإبداع الذي لا يختلف على هذا القول اثنان؛ لأنّه قد لا يختلفا أصلًا.
وأقول: لا يختلف الملايين على مكانة هذا القائد ورؤيته المُلهِمة وإبداعه الخلّاق.
وسيظل سموّه نبراسًا ومَثَلًا وطنيًّا عظيمًا، تسترشد بمنهجه وخُطاه هذه الأجيال وما بعدها ما دامت الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى