“الإجازة طويلة، والنوادي الخاصة مكلفة، ومعظم الأسر تعجز عن التكاليف. أكثر من 24 ألف مدرسة حكومية مغلقة، تنتظر أن تُبعث فيها الحياة… لماذا لا تتحول إلى نوادٍ صيفية؟”
بهذه الكلمات، أطلق داوود الشريان تغريدة تختصر همًّا وطنيًّا عميقًا. ليست شكوى، بل مرآة لما يعانيه المجتمع كل صيف. صورة الوزير المرفقة بالتغريدة نداء صامت: أن هذه القضية لا تحتاج إلا إلى قرار يُفعّل الموجود، ويُحيي الممكن.
طفل في السادسة من عمره… لا مدرسة، لا نادٍ، لا هدف. فقط وقتٌ مفتوح، شاسع، صامت، يبتلعه دون أن يشعر.
هذا الفراغ لم يعد مجرد خانة خالية في جدول، بل أصبح فراغًا في التكوين ذاته؛ في الوعي، في المهارة، في الانتماء، وفي المعنى.
ولا يقتصر الأمر على طفل في السادسة، بل يمتد إلى كل طفل وطفلة، كل فتى وفتاة في عمر التشكّل، من الابتدائي حتى نهاية المرحلة الثانوية.
الصيف مفترق طرق في حياة الشباب. كل مرحلة عمرية تتطلب احتواءً يناسبها: من يصافح، من يقود ذاته، من تكتشف قدراتها. جميعهم إن تُركوا للفراغ، اختطفتهم الشاشات، وبدّلتهم عوالم لا تشبههم.
في الماضي، لم نكن نعرف مصطلح “برامج صيفية” لكننا عشناها. لم يكن ماضينا سهلاً، لكنه كان مدرسة في الحياة.
كنا نشارك في الأندية القريبة، نستكشف ربوع بلادنا في رحلات إلى أبها، الباحة، ينبع، أملج، رابغ الطائف والمنطقة الشرقية… نلعب، نتفاعل، نُربى. كانت التكلفة بسيطة، لا تتجاوز ٥٠٠ ريال للصيف كله، لكن الأثر كان عظيمًا. كنا نصبح على والدينا ونمسي، وفي المنتصف نبني علاقات ومعارف ومهارات.
السهرات في الحارات، الدورات الرياضية، ألعاب البلوت والضومنة، لم تكن مجرد تسلية بل ساحات تربية غير مباشرة. كنا نعرف الجيران والأقارب وجيرانهم، لا من خلال تطبيق، بل من خلال مواقف.
اليوم تغيّرت الأدوات، لكن الثابت هو الإنسان. المطلوب أن نُعيد صياغة العلاقة بينه وبين المجتمع، نعرّضه لمواقف تُصقله، لا نُبعده بحجة الأمان.
المدارس المغلقة في الصيف لا تُغلق مبانٍ، بل احتمالات. والنظام الذي لا يرى في الصيف فرصةً للبناء، يفوّت أهم موسمٍ لصناعة المواطن.
الصيف موسم زراعة. موسم لإعادة التشكيل: جسدًا، وعقلًا، ووجدانًا.
هكذا علّمنا النبي ﷺ: “اغتنم خمسًا قبل خمس”. وهكذا قال عمر: “اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم”. وهكذا أوصى علي: “علّموا أولادكم الأدب لا الذهب”.
لكننا اليوم نغفل عن أعظم المهارات… في أبسط المواضع. لا نُعلّم كيف يُرد السلام، ولا كيف يُطلب الشيء باحترام، ولا متى يكون الصمت حكمة.
وهذه ليست مشكلة جديدة؛ بل قديمة. لكن أجدادنا ملأوا الفراغ بالحياة. أما اليوم، فالتقنية ملأته بالسطحية.
ومع ضغوط الحياة، أصبحت البدائل إما مكلفة أو ضحلة: سفر لا يُربّي، أو ترفيه لا يُنمّي. تشتري الوقت، لكنها لا تصنع إنسانًا.
الحل؟ أن نعيد صياغة الصيف.
أن تُنشأ في كل مدرسة مراكز حية، يديرها المعلمون والمعلمات، والمتقاعدون والمتقاعدات، أصحاب الخبرة والذاكرة، جنبًا إلى جنب مع المربين الجدد. تقدم برامج في المهارات، التقنية، القيم، التعبير، والقيادة. بتكلفة رمزية، وعائدٍ مجزٍ للكوادر الوطنية.
البرامج المتميزة لا تُطوى بنهاية الصيف، بل تُطوّر لتستمر طوال العام، وتُصبح امتدادًا حيًا للتعليم.
في فنلندا واليابان وسنغافورة، الصيف لا يُترك للفراغ. ونحن لسنا أقل منهم.
الرؤية السعودية 2030 تضع الإنسان في مركزها: مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، وطن طموح.
وفي كل خطوة تؤكد القيادة هذا المعنى؛ الملك سلمان يعزز الهوية، الأمير خالد الفيصل يقول: اللغة هوية، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان يؤمن أن بناء الوطن يبدأ ببناء الإنسان.
لكن المواطن لا يُبنى بالكلام… بل في نادٍ، في موقف، في يد تُمسك بطفل نحو الحياة.
فليتنا نتوقف عن عدّ السنوات… ونبدأ في عدّ الأثر.
طفل الست سنوات لا يحتاج شاشة أخرى، بل يدًا تمسك به نحو الحياة.
نحو نادٍ يُعلّمه.
نحو شيخ يُحادثه.
نحو شجرة يغرسها.
نحو قيمة يُمارسها.
نحو ركن من أركان النضج… لم يكن يومًا في المناهج.
نحو حياة… فيها معنى، وفيها اتزان، وفيها ملامح إنسان.
وهذا ما نحتاج أن نعيد صياغته، بصدق:
كيف نُهيئ الطفل ليحمل وطنًا؟