المقالات

عندما كنت دكتورًا .. لـ”ليلة واحدة”

ذات مرة وأنا مدعوًا لمهرجان ثقافي كبير في النادي الأدبي بالباحة، والنادي رغم موقعه الطرفي إلا أنه فعل الكثير واللافت، وفاق أقرانه، وصنع كرنفالًا بهيًا وفضاءً غير مسبوق.
فقد أقام فيما مضى خمسة مهرجانات عربية ثقافية، التقى على ضفافها أدباء كبار من المغرب وحتى الشارقة، ما جعل مفكرًا كالدكتور عبدالله الغذامي يثمن جهود النادي وديناميكيته، التي جعلته يحتل مقعدًا بارزًا في الصف الأول بين أنديتنا.
في تلك الرحلة حدث لي موقف طريف ظريف …
..
بداية أقول إن أركان النادي قد أسكنونا في (فندق الباحة)، (الآن تغير اسمه) وكانت نشأت معرفة بيني وبين عدد من الفضلاء المتطوعين مع النادي.
طلبت من أحدهم أن يساعدني فيمن يوصلني إلى بلدتي الأطاولة في مشوار قصير، لحاجتي في تفقد “شيئا ما” حول بيتي، ولم تكن معي سيارتي، فقد وصلت إلى هناك بالطائرة.
صديقي استجاب مشكورًا، وأخذني إلى بوابة الفندق، ثم أشار لسائق سيارة غير بعيد عنا (سيارة جيمس) من سيارات جامعة الباحة، والجامعة حينها – وربما لأكثر من مرة أخرى – كانت من رعاة مناسبات النادي وداعميه.
..
نادى على السائق: يا عم (…..) من فضلك أوصل هذا الحبيب (وأشار نحوي) إلى الأطاولة ولن يتأخر، إنه مشوار قصير جدًا.
أجاب بكل بشاشة: أبشر أبشر، أهلًا وسهلا …
وعندما كنت بجانبه، وبدأ موكبنا يتحرك، قال لي: مرحبا، أهلا وسهلا يا دكتور ….!
ارتبكت، لكنني قلت: بارك الله فيك، سامحنا، تعّبناك، ثم أردت أن أصوب له أنني لست دكتورًا، لكنني قلت في نفسي: (يالله، خليها تعدي ……!)
وبعد دقائق قليلة ابتدرني ثانية: هاه يا دكتور عسى الباحة عجبتك؟!
آآآه … هنا بدأت اضْطَرَبُ، وأتقلقل، هل أصوب له، أو (أدعها تمشي أيضًا) …
لكنني للحق كنت أطرب كثيرًا كلما سمعته يردد على مسمعي يا دكتور …! ..
..
وبقيت منتفخا كبالون أو منطاد ابتلع كمية لا بأس بها من الهيليوم، وظل يحلق في سماء فعالية كبيرة تعج بالبشر…. المهم أنني بقيت حائرًا مع نفسي، هل من الأسلم والأفضل أن أصحح له .. أو أن أدع الأمور تسير وفق رياح سائقي الجميل وقد (عيشني جوًا أخر…!).
اخترت الأخيرة، على الأقل في مشوار الذهاب .. ثم ونحن عائدون ربما أصوب له.
الرجل يعمل سائقًا في الجامعة، وبطبيعة الحال فعقله الجمعي يقول له، إن معظم من يتعامل معهم هم دكاترة في الغالب.

المهم أننا وصلنا الأطاولة وقضيت شأني بسرعة، ثم أخذت له هدية بسيطة من بيتنا، من ضمن أشياء اعتدت تقديمها للأصدقاء.
وخلال العودة، في منتصف الطريق تقريبًا، وقد هممت جازمًا أن أصوب له أنني لست دكتورًا، قلت في نفسي: (خلاص، كفايه لحد كذا) ….
لكن وأنا أكاد أن أتكلم، إذ بجرس هاتفه يرّن “وشخص ما” يطلبه، استأذن مني وراح يرد على مكالمة طويلة استغرقت معظم بقية مشوار عودتنا، سمعته يقول خلالها: (معي واحد دكتور أوصلته الاطاولة، وراجعين، خلاص قرّبنا نوصل)
..
وعند باب الفندق …
وكان قد عاد موكبنا الميمون تحفه بيارق السلامة، طلبت منه أن يزحف ويقف بعيدًا عن المدخل قليلا، كنت أخشى أن يرانا صدفة صاحبي الذي توسط لي في المشوار قبل قليل، فلربما قال له السائق: لقد أوصلت صاحبك “الدكتور” وعدت به كما طلبت مني.
وعندها كنت توقعت أن صديقي ذلك سيطلق ضحكة مجلجلة، مع تعليق غير سار يفسد به ذلك العالم التخيلي، الذي ما زال يتلبسني حينها، وكنت أقتاته منتشيًا.
أنا أردت – حقيقة – أن يظل ذلك اللقب الافتراضي (يا دكتور) عالقًا في دماغي …
على الأقل لبقية تلك الليلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى