نشرت قناة “العربية عاجل” صباح اليوم الأحد عبر منصة X تغريدتين أثارتا القلق والأسى؛
الأولى على لسان المتطرّف إيتمار بن غفير من باحات المسجد الأقصى، يقول فيها:
“يجب أن نحتل غزة ونفرض السيادة الإسرائيلية عليها.”
والثانية: “الحكومة ستُسرّع تشجيع سكان غزة على الهجرة الطوعية.”
وأمام هذه التصريح الثاني، لا يسعني إلا أن أقول لإخواننا في غزة:
“جاك يا مهنا ما تمنّى.”
لستم أوّل من يُدفع للهجرة والفرار بدينه ونفسه؛ فقد سبقكم رسول الله ﷺ حين خرج من مكة مهاجرًا وهو يبكي حزنًا على فراقها. والتاريخ مليء بشواهد الهجرة، سواء كانت فرارًا من بطش، أو طلبًا للنجاة.
وكما قال عمرو بن معديكرب، في مواجهة الاضطرار وشدة الأمر:
إذا لم يكنْ غيرُ الأسِنَّةِ مركبًا
فما حيلةُ المُضطرّ إلا ركوبُها
وهكذا هي هجرتكم اليوم؛ ليست خيار ضعف، بل قرار مضطر يسعى لحفظ النفس والكرامة.
لكن العبرة، في نظري، ليست في الهجرة ذاتها، بل في القدرة على التعافي من الجراح، وإعادة بناء الوحدة الوطنية تحت قيادة رشيدة مؤمنة بقضيتها ومخلصة لشعبها.
كم من مهاجرٍ عاد منتصرًا، وها هي فتح مكة مثالٌ خالد على ذلك.
فوضوا أمركم لله، فالنصر آتٍ لا محالة، وإن تأخّر… فربما يكون قدَرُكم أن يتحقّق على أيدي أحفادكم.
لكن لا تسمحوا لأحد أن يقدّمكم وأطفالكم قرابين لمخططات العدو وأعوانه؛ فثمة من يتغذّى على تشريدكم، ويتلذّذ بتجويعكم، ليصنع لنفسه بطولات من نوع الخزي والعار.
انظروا من حولكم… كم من أمة دفعت الثمن غاليًا حين انتصرت للعاطفة على حساب الحكمة!
سوريا ليست ببعيدة، والفوضى التي اجتاحت مدنها عام 2011 تحت شعارات التغيير العاطفي، حصدت أرواح أكثر من مليونَي شهيد، وشرّدت الملايين، وفتحت الأبواب أمام التدخلات والمآسي.
وفي المقابل، حين دخل أحمد الشرع وفق تفاهم سياسي في سوريا جنّبت الدماء.
نحن اليوم مع صوت العاقل، لا مع عاطفة متهورة تُزهق الأرواح وتُنزف الجراح.
فدماء الأبرياء ليست وقودًا للتكبيرات الحماسية، بل أمانة في أعناق الحكماء.
لقد تقدّم أبرهة لهدم الكعبة، ولم يجد من يواجهه بسلاح، إلا عبدالمطلب الذي قال كلمته الشهيرة:
“أنا ربّ الإبل، وللبيت ربٌّ يحميه.”
ومضى أبرهة، فأرسل الله عليه الطير الأبابيل، فهُزِم بلا معركة بشرية.
الرسالة هنا واضحة: لا تعتمدوا على قوتكم وحدها، بل توكلوا على الله، واسعوا بالحكمة والبصيرة.
هناك رجال مخلصون من أهل الرأي استطاعوا أن ينتزعوا اعترافات دولٍ عظمى بفلسطين، وأن يعيدوا حلّ الدولتين إلى طاولة المجتمع الدولي.
فاستبشروا خيرًا، فالمستقبل يُصنع بعزيمة المخلصين لا صخب المتاجرين.
⸻
ختامًا
بعد أحداث السابع من أكتوبر المشؤومة، كتبتُ مقالين بعنوان: “غزة بين الذل والعزة”، وها هو اليوم يتجسّد ما كنت قد أشرت إليه وتوقعت حدوثه.
واليوم، أجد في الهجرة عزة مؤقتة لأشقائنا في غزة، فهي ليست ضعفًا، بل حفظ للنفس، وصون للكرامة. الاحتلال قد يطيل مقامه، لكنه لن يهنأ به؛ فحتى الحجارة تلاحقه، تُطارده من يد طفل، ومن شرفات الذاكرة. هو لا ينام قرير العين، لأن الحجر الفلسطيني أثقل من رصاصه، وأصدق من كل ادعاءاته.
اعتبروها استراحة محارب للعودة برؤية وبصيرة جديدة، فمن يفكّر خارج الصندوق ليس كمن حُصر فكره داخله.
احذروا من المتاجرين بأرواحكم، وحكّموا العقول قبل أن تُستنزف النفوس.
أنتم لستم أول من يهاجر…
لكن أملي ألا تكونوا منسيين،
بل عائدين منتصرين،
وقدوتكم في ذلك النبي الأمين، سيد المهاجرين، وخاتم النبيين.


