المقالات

فن الإصغاء

يحظى مجال الاتصال الإنساني باهتمام واسع بين المهتمين والمتخصصين، نظرًا لأهميته في إدارة وتكوين العلاقات الإنسانية. ويبرز فن الإصغاء كأحد أهم مكونات وعناصر الاتصال، وذلك لكونه يقوم بدور هام في تقوية ودعم مهارات الاتصال الأخرى، ويعطي انطباعًا جيدًا عن الذات.

وبالنظر إلى معطيات الواقع، فإن معظم الناس يميلون في تفاعلاتهم الاجتماعية إلى التحدث أكثر من الإصغاء. ويحدث ذلك بكثرة في المناسبات الخاصة والاجتماعية، فنجد الحوارات المتنوعة تسود المجالس حديثًا، وقليلٌ منهم من يمتلك فن الإصغاء الذي يُعد المدخل الأساس لفهم الحوارات وتجهيز الرد المناسب وانتقاء الكلمات الأفضل. وثمة حكمة قديمة مفادها: “خلق الله للإنسان أذنين ولسانًا واحدًا كي يسمع أكثر مما يتحدث”.

والملاحظ أن كثيرًا من الناس يتجاهلون الإصغاء، فيقاطعون المتحدث ويكثرون من الكلام، ويفوتهم بذلك فهم وإدراك ما يجب فهمه وإدراكه. ولأجل ذلك تحصل المشاجرات والاختلافات، ولا يصل المتحاورون إلى نقاط الاتفاق المطلوبة، وكل ذلك بسبب ضعف مهارة الإصغاء.

إن مما يجب العلم به حول الإصغاء، أنه بالإضافة إلى كونه يحسّن مهارات الاتصال عامة ويدعم التفاهم مع الآخرين، فهو أيضًا يشكل سمة وعلامة للشخصية المتزنة، ويعطي لها شيئًا من الهيبة والوقار. فما أجمل أن يبدو الإنسان رزينًا متزنًا، قليل الحديث إلا عند الحاجة، فالصمت – كما يقول المثل العربي – أجمل للفتى من منطق في غير حينه.

وحين يفتقد الإنسان مهارة الإصغاء، تصبح استجاباته مشتتة وكلامه غير مركز ولا يلقى القبول لدى الآخر. ولطالما تسبب فقدان الإصغاء في النزاعات واتساع الخلافات، ودخل الناس في القطيعة والتدابر والشجار المستمر بسبب كثرة الكلام. فمن المعلوم أنه “من كثر كلامه كثر لغطه”، واللغط يعني التخبط والعشوائية والوقوع في الخطأ بقصد أو بغير قصد، وهذا ما قد يسبب المشكلات.

وقد نرى في المناسبات العامة فئة من الناس لا يمكن أن يصغي أحدهم لغيره؛ فمنذ جلوسه حتى مغادرته وهو يتكلم، يتنقل في الموضوعات، يسرد القصص والنكات بلا توقف، ويمجّد ذاته وتجاربه. وهذا السلوك المشين يسبب حرجًا كبيرًا للحاضرين، فإن قاطعوه غضب، وإن انتقدوا ما يقوله غضب، وإن سكتوا أحرجهم بكثرة كلامه وتخبطاته وأخطائه التي تكشف عن مستوى تفكيره وحجم عقله. فـ”عقل المرء يبقى صندوقًا مغلقًا حتى يتحدث”. وقد يورد معلومات غير صحيحة، وينقل أخبارًا كاذبة، ويجزم بقضايا باطلة حتى يقول السامعون: “ليته سكت”، ومن ثم يصفونه بأوصاف تبقى علامة فارقة ومجالًا للسخرية منه مثل: (الثرثار – المهرج – الكذاب)، إلى غير ذلك.

والحقيقة أن من جملة مهارات وفنون الاتصال البشري لا يوجد إطلاقًا أسهل من تعلم مهارة وفن الإصغاء؛ فالمسألة تحتاج إلى ضبط وسيطرة وتعود مستمر على كبح اللسان. فالقول محسوب ومكتوب، ورب كلمة قالت لصاحبها: “دعني”. ومن أراد أن يتسم بالإصغاء الجيد فعليه تدريب نفسه وتعويدها على ذلك سواء في بيته أو عمله أو مع أصحابه وفي جلساته. فالأمر لا يحتاج إلى عناء أو تكلف، وإنما إلى عقل متزن وتفكير إيجابي.

فالكلام يقتصر فقط على ما فيه نفع، أو رد جميل على متحدث، بينما يكون الإصغاء هو السمة الغالبة التي تغطي كثيرًا من العيوب المتصلة بالشخصية والتفكير والتصرفات. وفي بعض الأحيان قد يكون الإصغاء حلًا ناجعًا لكثير من المشكلات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى