المقالات

إلى روح أستاذي الوزير الشاعر الإنسان الدكتور غازي القصيبي

يحكى الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي رحمه الله – وزير الصناعة ووزير العمل السابق – أنه اُبلغ يومًا عن سبّاك طلب مبلغًا كبيرًا (ألف ريال) مقابل إصلاحٍ لا يستغرق أكثر من ربع ساعة!
استدعاه الوزير المستغرب إلى مكتبه وقال له:
“كيف تطلب هذا المبلغ الباهظ؟! أنا وزير أعمل ١٢ ساعة يوميًا ولا أحصل في نهاية الشهر إلا على ١٥ ألف ريال!”.
إجابة السبّاك البسيطة كانت بمثابة صفعة من الواقع، خلّدها القصيبي لعمق دلالتها: “تعال معي إلى الحمام وأنا أدفع لك خمسة آلاف! أنت تجلس في مكتب مكيف، اترك لي مكتبك واذهب أنت للعمل في الحمام!”
عندها أدرك القصيبي – بعين الفيلسوف قبل الوزير – أن الحق كل الحق مع ذلك العامل، وأن قيمة العمل تُقاس بالجهد والظرف والإتقان، لا باللقب ولا بالمكتب ولا بالشهادة.

الرجل الذي أدرك الحكمة
هذه البصيرة لم تكن لتأتي إلا من رجل بحجم غازي القصيبي الذي كان مزيجًا نادرًا: شاعرٌ يكتب بالسيف، ودبلوماسيٌ يروي بالنكتة، ووزيرٌ يعرف أن كرامة السبّاك من كرامة الوطن. كان بحق إنسان جمع بين رهافة الأديب وصلابة الإداري. كان يرى ما لا يراه غيره، ويلتقط الحكمة من أبسط المواقف ليجعل منها درسًا خالدًا في العدل والكرامة.
لقد فهم القصيبي، بثقافته الواسعة وحنكته العملية، أن “قيمة العمل الحقيقية تُستمد من الجهد المبذول، والمهارة المطلوبة، وظروف الإنجاز، ومدى الحاجة إليه، وليس فقط من المسمى الوظيفي أو الشهادة الحائز عليها”. كسب العامل اليدوي الماهر لقمة عيشه بعرق جبينه، وفي ظروف قد تكون قاسية، هو كسب مشروع ومحترم بل ومستحق لكل ريال يأخذه إذا كان عادلاً مقابل الخدمة والجهد.

أستاذٌ وقائدٌ وإنسان
كان الدكتور غازي القصيبي “أحد عمالقة النهضة السعودية”، وأعتز أنه كان أستاذي الذي تشرفتُ بالجلوس في محضره كطالب في كلية التجارة بجامعة الرياض (الملك سعود)، ثم معيدًا تحت إشرافه، ثم زميلًا في العمل الدبلوماسي.
وبين تلك المراحل، لم يفارقني إحساس الامتنان أنني كنت قريبًا من رجلٍ جمع بين التواضع والمعرفة، وبين الإدارة الصارمة وروح الدعابة الراقية.
لقد كان نموذجًا فريدًا:
• أستاذًا يُشعل في تلاميذه شغف المعرفة، مرددًا عبارته الشهيرة لنا: “اقرأوا أي شيء… حتى ولو (رجوع الشيخ إلى صباه)… المهم أن تقرأوا!”
• قائدًا يملك الجرأة الممزوجة بالحكمة، فيرسم طريقًا جديدًا حيث لم يجرؤ الآخرون على المسير.
• صديقًا تُثري مجالسته وتُنعش الروح قفشاته الذكية وضحكته الصافية.
• إنسانًا يرى في عاملٍ مجهول بطلاً صامتًا يستحق كل تقدير.

إرثٌ يتجاوز المناصب
لم يكن غازي القصيبي مجرد وزير يتقلد المناصب، بل كان مدرسة فكرية وإنسانية. ترك في الأدب عشرات المؤلفات، وفي الإدارة بصمات إصلاحية، وفي الدبلوماسية حضورًا راقيًا، وفي القلوب ذكرياتٍ لا تُمحى.
من قصته البسيطة مع السباك استخلص غازي القصيبي فلسفة متكاملة في تقدير العمل:
1. الظروف تصنع القيمة: العمل لا يُقاس بالساعات فقط، بل بثقل البيئة المحيطة به. العرق تحت الشمس غير القلم خلف المكتب.
2. المهارة ثروة صامتة: إصلاحٌ في دقائق قد يختصر خبرة سنوات من المحاولة والخطأ. وهذه الثروة العملية لا تقل شأنًا عن الشهادات الأكاديمية.
3. الاستعجال يضاعف القيمة: الأعمال الطارئة – كإصلاح انقطاع كهرباء أو تسرب ماء – تستمد قيمتها من ندرتها وحاجتها الفورية.
4. الكرامة أصل العدالة: الكرامة الإنسانية لا تُستمد من شهادة أو لقب، بل من صدق الجهد وعفة اليد.
5. التوازن بين العقل واليد: المجتمعات لا تنهض بالعلم وحده ولا بالمهارة وحدها، بل بتكامل الاثنين معًا:
o مهندس يُصمِّم، وبنّاء يُشيِّد.
o طبيب يُشخِّص، وفنيّ يُصلِّح جهاز الأشعة.
العالم المتوازن هو الذي يُكرم العقل واليد معًا.
المجتمع السليم هو الذي “يُكرم العقل واليد معًا”، ويُدرك أن عرق الجبين تحت الشمس يستحق التقدير مثل أفكار العقل بين الكتب.

الوداع الذي لا ينتهي
في الخامس عشر من أغسطس، أطلّت ذكرى رحيله، فهزّت القلب كما لو أنها بالأمس. تذكرت الأستاذ والوزير والصديق والإنسان، وتذكرت كيف كان يُعلّمنا بلا خطابة أن العظمة تكمن في التواضع، وأن قيمة الإنسان ليست في المنصب، بل في قدرته على أن يرى من عليائه عرق البسطاء وهو يصنع الحياة.
رحمك الله يا دكتور غازي… فقد كنت وما زلت “النموذج المضيء” الذي يثبت أن الفكر حين يقترن بالإنسانية يُخلّد، وأن الكلمة حين تصدر عن قلب نقيّ تصير أثرًا لا يزول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى