المقالات

يا ولدي .. رسالة وداع أب لابنه

(يا ولدي)
أكتب إليك هذه الرسالة وفي قلبي مشاعر مزدحمة من الفرح والحُزن والخوف والأمل ، أكتبها حين علمت أنك ستحزم حقائبك للسفر حيث طافت بي ذكريات كثيرة وأحزان وأشجان ، أشعر أن قاربك الصغير الذي طالما كان يقف على شطآن قلبي سيرحل إلى أمواج البحر بعيدًا عن نظري .
(يا ولدي)
مهما شرحت لك عن مشاعري ، فلن تتمكن من إدراكها حتى تصير أبًًا مثلي ، أنت لست مجرد شاب سيرحل إلى الجامعة ، أنت تاريخ من الذكريات بدأت حكايته معي أنا وأمك منذ علمنا أنها تحملك بين أضلُعها .
تسعة عشر عامًا معك ياولدي ، كل يوم قصة جديدة ورواية من روايات الشجن ، طريق طويل فيه منعطفات الألم ، ووقفات القلق ، وبسمات وأفراح ، كنت تكبر فتكبر معك همومنا ، وتطول بقدر طولك مخاوفنا ، لا أنسى دموع أمك وهي تودعك حين حملت حقيبتك وذهبت للمدرسة في أول يوم دراسي ، ومرت الأيام ومشهد الدموع يتكرر ، قصتنا معك أكبر من أن تضُم أحداثها رسالتي إليك ، وها أنا اليوم أعيش لحظات عصيبة أرى فيها قطعة من روحي تُنزع وترحل عني ، فماذا عساني أن أقول .
ربما تقول في نفسك إنها مواعظ معروفة ، ونصائح مكررة ، كلا يا بني والله لو طفت هذا العالم لن تجد قلبًا يُحبك اليوم كقلب أبوك وأمك ، أُناديك فاستمع إليَّ ، فربما يُدهشك أن أقول لك لقد تمنيت أنك لا زلت صغيرًا ، تنام بجواري ، وأضمك إلى صدري ، وأغلق عليك بابي ، وأحملك على كتفي ، استمع إلي فطوفان المخاوف يزلزل قلبي عليك ، كيف لا أخافُ عليك وأنا أسمع عن شباب أحرقوا أوراق حياتهم بالضياع والانحراف .
“احفظ الله يحفظك” أحسن كلمة أُهديها لك اليوم ، أرجوك اكتبها في قلبك ، وانقشها في روحك ، وتمتم بها في خلواتك ورددها في طرقاتك .
(يا ولدي)
أبوك إنسانٌ ضعيفٌ عاجز لا يعرف ماذا ستفعل حين ترحل غدًا عن فناء البيت ، لا أستطيع أن أحرسك ووددت أن أستطيع ذلك ، لا أدري هل ستُحافظ على صلواتك أما لا ، لا أدري ولا أستطيع أن أدري ولكن الله يدري “فاحفظ الله يحفظك” ، احفظ الله الذي يراك في سيارتك ، وفي سكنك ، وفي طريقك ، ومع زميلك ووحدك ، استمع لنصيحة والد مشفق عليك ، وهو يقول لولده يا بُني “إنها إن تكُ مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتِ بها الله إن الله لطيف خبير” .
(يا ولدي)
اتق الله حيثما كنت ، فإذا فعلت ذلك فلن تحتاج إليَّ أبدا فالله سيكون معك ، سيفرج كربتك إن حلت بك الكربات ، وسيزيح همك إن طافت بك الهموم والملمات .
(يا ولدي)
الحياة مليئة بالمتاعب ، وأنت ستكون بحاجة إلى ربك حتمًا ، فكن مع الله يكن معك
سأخبرك بصاحب عرفته وخبرته وكنت كلما أصابتني حاجة فزعت إليه ، لا تتردد اتصل به في أي وقت في ليل أو نهار ، وفي شدة أو كرب إنه الله يا ولدي ، إذا أصابك خوف أو هم أو عدو أو ألم فأنت تعرف الطريق إلى السماء ارفع يديك إلى مولاك الرحمن واسأله أي شيء تريده ، فوالله إنه لن يُخيبك .
إذا ظلمك أستاذك ، أو تعطلت أوراقك ، أو تعقدت معاملاتك ، أو صعبت عليك موادك ، أو تعسر فهمك ، أو ازدحمت عليك اختباراتك ، أو ضاقت أوقاتك ، أو احترت ماذا تختار ، وفي أي تخصص تذهب ، فناد ربك يسمعك ، واستجر به يجيرك ، واستخره يُخيرك .
الصلاة الصلاة ياولدي أسألك بالله ألا تتركها قط ،
صلاة الفجر هي المستقبل وهي الأمن وهي الراحة والسعادة ، لا تصلها في البيت كن من المشائين في الظلم إلى المساجد ، إني أتخيلك في الظلام تسير إلى بيت الله مصليًا ، فيقفز فؤادي من الفرح نور الله قلبك .
كل العالم با بُني مجمعون على أن الصديق يؤثر في صديقه ، فصاحب الأخيار تكن مثلهم ، ارتفع مع الطيبين يرفعونك ، توحش من العصاة والمنحرفين ، كُن حازمًا ولا تجاملهم ، قويًا لا تضعف أمامهم ، لا بد من قررات صعبة لنعيش حياة سوية ، كل قصة في السجون خلفها صديق ياولدي ، كل جريمة قادت إلى القتل تحتها صاحب ساحب ، وأعلم يا بني أن من خان الله يخن عباده ، ومن عق والديه فلا خير فيه ، والأخيار يعينون على الخيرات ويشجعون للطاعات ، إن هذا التحذير قد قاله كثيرون واستمع له كثيرون فنجوا ، ولم يستجب له أخرون فهلكوا فلا تكن حفظك الله من الهالكين .
أنت هناك في مهمة والرجال يعيشون لمهماتهم
أنت لم تسافر للعب والسهر والتنزه فقط ، أنت هناك لواجب الرجال ومسؤوليات الأبطال ، أنت سفير فوق العادة لأب وأم لو كنت تعلم أي حال تركتهما عليه لما هانت عليك دموعهم ، ولما سهل عليك سهرهم ، لو كنت تقرأ في صفحات قلوبهم لقرأت قصصًا من الأمل ، وروايات من الانتظار ، قد رسموك وقد عدت ناجحًا ، وتخيلوك وقد أتيت متفوقًا ، لو كنت تعلم ذلك لأدمنت السهر في المذاكرة ، وقطعت العمر في التعلم ، ولهان عليك التخلي عن سهرات اللاهين ، وتجمعات المتهاونين .
(يا ولدي)
هل ترى الناجحين العظماء اليوم ؟
أنت مؤهل لأن تسجل اسمك معهم ، أما قائمة الفشل فسترى خلفها ضياع وإهمال وتسكع وسهر ، سنوات قضاها هؤلاء وهؤلاء صنعت الفرق في العمر كله .
الزم بيتك فقصص النجاح الكبرى حتى لأعظم عظماء التاريخ صنعوها في بيوتهم ، وأمسك عليك لسانك وابك على خطيئتك
( استودعك الله يا ولدي )
*ماورد بالأعلى عبارة عن رسالة للشيخ الدكتور عبدالله بلقاسم ألقاها في خطبة جمعة في جامع بلال بمحافظة النماص في عام 2016م ، والتي تصف وتُصور حال الأباء والأمهات عمومًا ممن يودعون أبناءهم خريجي المرحلة الثانوية والذين يغادرون منازلهم في بداية كل عامٍ دراسيٍ جديد إلى مناطق أخرى لإكمال دراستهم الجامعية أي في مثل هذا التوقيت من كل عام ، والشيخ كأب كان أحدهم وقتها ، وقد قرأتها يامحدثكم في حينها وأستوقفتني كثيرًا لكني اليوم وبعد عقد من الزمن أجد نفسي وقد استرجعتها واستشعرتها بشكلٍ أقوى وأعمق كيف لا وأنا أُودع ابني (زياد) -حفظه الله- والذي قُبل في الجامعة بعيدًا عن والديه ، فأحببت هنا مشاركتكم تلك الرسالة المُعبرة وذلك الشعور المؤثر ، فلعل معي من الأباء اليوم الكثير .

بندر الشهري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى